تبدأ سردية “السوريون الأعداء” للروائي السوري فواز حداد، والصادرة عن دار رياض الريس للكتب والنشر عام 2014 بحكاية القاضي سليم الراجي، وهو يحاول الدخول إلى مدينة حماه، قادماً من دمشق، إبان الأحداث الدامية، والمجازر البشعة التي ارتكبها النظام السوري في مدينة حماه، في شهر شباط من العام 1982 وذهب ضحيتها أكثر من ثلاثين ألف مدني من أهلها، وتدمير عدد من أحياء المدنية بشكل كامل، تحث ذريعة مطاردة المتمردين الإسلاميين من جماعتي الطليعة والإخوان المسلمين، استخدم الجيش السوري وعلى رأسه سرايا الدفاع والقوات الخاصة سياسة الأرض المحروقة والمدمرة في خطوات أولى للنظام الأسدي في تثبيت كيانه في مسلسل الإبادة الذي اتبعه بحق معارضيه ومناطق سكنهم بما تضم من أطفال وشيوخ ونسوة ومدنيين لا علاقة لهم بما يجري.
القاضي الذي لم ينجح في دخول مدينة حماه لتفقد أوضاع أهله هناك، وفي يوم ربيعي من شهر آذار الذي أعقب المجازر الوحشية، والأيام العصيبة، التي عاشتها سورية، يصطدم بشاب كان برفقته زوجته وهي تحمل طفلاً رضيعاً بين يديها يقرع باب بيته صباحاً، وليسلمه الطفل الرضيع، وهو يردد بأن امرأة عجوز (أم محمد) انتشلته من بين الأموات، (إذا كانت العجوز انتشلته من بين الأموات، فأبي وأخي هم الأموات) صفحة 16
ثم يعود الكاتب بالأحداث إلى الحدث الرئيسي، حيث مشهد القتل والتدمير، المشهد الدموي الذي تم تنفيذه بحق الأبرياء ضمن سياسة التطهير الممنهج الذي اتبعه النظام الأسدي لتأديب السوريين، فبعد انتهاء الاشتباكات مع مسلحي الطليعة، التي أعقبت القصف المدفعي التمهيدي، ثم دخول الدبابات والمصفحات، بدأت عمليات التطهير، حيث لم يُستثنَ أحد من القتل، وطالت الأطفال الذين كانوا بنظرهم مشاريع إرهابية مستقبلاً، لم يكن النقيب سليمان ضابطاً في الوحدات القتالية، بل كان ضابط إمداد وتسليح في الوحدات الخلفية للواء 42 التابع للفرقة الثالثة، حصل مدفوعاً بشهوة القتل، ولذة الانتقام، على أمر بإجراء جولة تفقدية على أحياء البارودية والكيلانية والزنبقي بصحبة جنديين، وتفقد الأبنية التي ما تزال قائمة، والنظر في إخلاء سكانها تمهيداً لتدميرها وإزالتها نهائياً، النقيب المرهوب الجانب، كونه ضابط أمن اللواء، يحصل على هذا الأمر رغم أن لا علاقة له بعمليات التمشيط والاشتباك، سبقته عدة أوامر تم تكليفه بها من قبل قائد اللواء للقيام بجولات إطلاع على بعض المواقع التي تم تطهيرها من المسلحين.
في جولة النقيب هذه، يحاول العثور على أي كائن ليرديه تحت وطأة لذة القتل، شاب ملتح، أو امرأة، أو طفل من أبناء الإرهابيين، السيارة تشق طريقها بين الأنقاض، والنقيب يتحسس رشاشه الساموبال ومسدسه بانتظار لحظة القتل المصحوبة بالشهوة، منظر الجنود وهم يسحلون الجثث المتفسخة من وسط الدمار والحرائق المشتعلة، لا يوجد أي عارض لمسلح أو مدني، طفل أو امرأة ليمارس متعته بتوق، غير مسموح للتجول أو الخروج من المنازل، فالقناصة بالمرصاد، والأوامر لا تقضي باستثناء طفل أو شيخ أو امرأة. في حي الكيلانية تظهر له عائلة الطبيب عدنان الراجي، والده وزوجته وأطفاله الأربعة، تحسس حركتهم وهم متوارون في أحد الأقبية، (تناول مكبر الصوت وأطلق تحذيراً هدد ساكنيه بالخروج رافعي الأيدي، وإلا فجره فوق رؤوسهم.. فظهروا من فجوة مظلمة تحت الأرض، كانوا مختبئين في القبو، غادروه الواحد تلو الآخر، الجد، الأب، والأم يتبعها أولادها الثلاثة، بنتان وصبي، رفعوا أيديهم عالياً، يرتعدون، الهواء البارد يلفحهم، أسبل الأولاد أيديهم، ثم عقدوها حول صدورهم، وأخفوا أكفهم تحت آباطهم طلباً للدفء، الأم لم ترفع يديها، كاد أن يصرخ يأمرها للامتثال لأمره، انتبه إلى أنها تحمل بين يديها لفافة، بدا منها رأس رضيع..) صفحة 28 وبعد تحقيق سريع عن أسمائهم وأسباب وجودهم في القبو، يسأل الطبيب عن عمله، فيجيبه طبيب في المشفى الوطني، فيرد عليه من المؤكد أنك أنقذت العديد من الجرحى، فيجيب الطبيب لقد عالجتهم.
عشرات الضحايا في إحدى مجازر حماة
يأمر النقيب الجنديين بسوق الطبيب إلى حقل الرمي لمعالجة ضابط مصاب، وما حقل الرمي سوى المكان الأخير للقضاء على كل أشكال الحياة، فهناك وبعد محاكمات شكلية يتم إعدام كل من تم القبض عليه ضمن الأحياء المنتفضة، أما مصير عائلة الطبيب فقد كانوا بانتظار تحقيق شهوة القتل لسفير الموت، الذي لم يتورع عن إفراغ مخزن رشاشه في لحظة عابرة، حيث لا شاهد ولا رقيب، تداعى الشيخ والأطفال، توقف النبض بعد أن سالت الدماء، انكبت المرأة على رضيعها، وهي تحاول إنقاذه، صمت مطبق، انشقت الأرض عن زول امرأة تراءى من بين الأنقاض، تقدمت إلى حيث الجثث التي كانت تنبض بالحياة منذ قليل، أمسكت الرضيع من بين أحضان أمه، كان حياً، وتقدمت بثقة وتحد وهي تحمل الطفل الرضيع، تنتظر طلقة تخترق ظهرها، حركة من الخلف أنقذتها، أطلق النقيب طلقات من رشاشه إلى جهة الصوت والحركة، لم يجد شيئاً، عاد بنظره إلى العجوز، كانت قد اختفت نهائياً.
عندما وصلت المرأة العجوز إلى مدينة حمص في رحلة امتدت ثلاثة أيام، دخلت إلى جامع خالد بن الوليد، سلمت الرضيع إلى شيخ الجامع (الشيخ عبدالباري)، وقالت الرضيع ابن الطبيب عدنان الراجي، عمه قاض في دمشق سليم الراجي، وروت حكايتها مع عائلة الطبيب، وكيف أنقذته من الموت، وأنهت حديثها بأن الله مدّ بعمرها هذه الأيام القليلة لكي تنقذ الطفل وتكون الشاهد الوحيد على موت أهله، في الصباح فارقت الحياة.
يصل الطبيب مخفوراً إلى حقل الرمي، وهناك لم يجد الضابط المصاب، ليدخل في طابور المهيئين للإعدام، وفي اللحظات الأخيرة يلتقي المساعد ضرغام، الذي كان قد عالج أطفاله مجاناً في يوم مضى، كان قد عاهده أن يكون أخاً له، المساعد يعيش صراعاً داخلياً، يتردد بين تنفيذ الأوامر، أو إنقاذ الطبيب، الصراع ينتهي بانتصار الأخ، ينجح بتأخير لحظة الإعدام، يحاول أن يوفر فرصة لنجاة الطبيب. (لا تعتمد على كلامي، لكنني سأبذل جهدي.. الخير الذي فعلته يا دكتور لم يذهب هباء، أنت رميته في البحر من دون انتظار جزاء عليه، أرجو أن يهبني الله القدرة على مساعدتك كرمى لما فعلته معي ومع غيري) صفحة 42 أخيراً ينجح بتأجيل موته، فما بين صراع ضباط السرايا والقوات الخاصة والأمنيين واللجنة القضائية، يأتي الأمر بإيقاف تنفيذ الإعدامات ونقل من تبقى منهم إلى دمشق. (قبل الرحيل إلى دمشق، جاءه المساعد ضرغام، انتحى به واعتذر منه، لقد بذل جهده، ولم يوفق، كان آسفاً، تعثرت الكلمات في فمه: لكم أشعر بالأسى من أجلك، ما قدمته لي أكثر مما قدمته لك، قدمت لي الأخوة، وتمنيت أن أفيك حقوقها عليّ، نفسي تحدثني ببراءتك.. إياك أن تعترف بشيء لم تفعله. وسوف يقول له ما سوف يتذكره طوال السنوات المقبلة: مهما امتد بك العمر، لن تحظى سوى بالإعدام، ليتك لاقيت حتفك في حقل الرمي، سيصيبك في المخابرات من الأذى ما لا يُطاق، وتتمنى الموت ألف مرة..) صفحة100 وأخيراً أوجز كلامه بنصيحة (من حسن طالعك، أنك طبيب، حاول أن تموت بسرعة لابد تعرف وسيلة مضمونة وسهلة) صفحة 101.
تتالى أحداث الرواية المتلاحقة، وترتفع حدة الخطاب السردي ضمن سياق هرمي، يعلو في مواقع كما في أحداث اعتقال الطبيب عدنان الراجي، وتنقله من حقل الرمي (حقل الإعدامات) إلى مراكز المخابرات، ثم إلى مركز الاعتقال الرئيسي (سجن تدمر)، الذي اصطلح على تسميته مركز التطهير الوطني، ثم إلى سجن صيدنايا، ولكن بإشارة إلى أن سجن تدمر هو محور التركيز الرئيسي، الذي يتناول فيه توصيف التعذيب والقتل وعمليات الإعدام، ويهبط إلى مستويات أدنى ضمن أحداث انتقال السلطة في سوريا عبر ما سمي الحركة التصحيحية، أو الصراع على السلطة (بين حافظ الأسد وشقيقه رفعت)، ثم في توصيف الصراع على صناعة الدولة الأمنية، ومراكز صناعة القرار.
اللغة في رواية السوريون الأعداء..
تتميز لغة السرد بالسلاسة والدقة في تركيب الجملة لإيصال المعنى، وهي تقترب من نبض الناس من خلال الاحتفاء بالسائد اليومي، وهي تميل في بعض الفصول للاحتفاء بالصور والمجاز، وهو ما ميز الروائي فواز حداد في إدارة مفاصل الرواية على نحو مثير، استطاع من خلالها نقل معاناة الشخصيات، ووصف البيئة والمحيط وعوالم شخصيات الرواية، والقبض على مفاتيح الدخول والخروج إلى أحداث ومفاصل الرواية، ونقل تفاصيل ومشاهد التعذيب والقتل والجنس بدقة فائقة، ومن تجلياتها القدرة على تمثل الحالة الإنسانية إلى درجة التماهي مع الحدث، خصوصاً ما يتعلق بمشاهد التعذيب، التي تصل بالقارئ إلى ذروة الإحساس بالألم من خلال استخدام أدوات التعذيب، فلسعات السياط تدفعك لتلمس مواضع الألم، ووقع ضربات الكابل الرباعي وهي تنهش أجساد المعتقلين تولد الإحساس بالتماهي معهم، وتشكيل حالة من الاتحاد مع شخصيات الرواية، لكن هذه المفارقة بدورين مختلفين، الأول التماهي مع الجلاد من خلال الولوج إلى جوانيته، وإثارة مجموعة من الأسئلة عن مدى إحساسه بالألم الذي يحدثه في نفوس المعتقلين، وهل هو تعويض عن الظلم الذي أحيق به، ويريد تكريسه لدى الآخرين، أم هو مدفوع بالإثارة واللذة؟ وما هي ردود فعله عندما يحتضن أولاده بيديه، وبهما كان يوقع الألم على الآخرين، وباللذة ذاتها يضفي الحنان والحب، والثاني تقمص دور المعتقل الذي يتلقى الضربات واللكمات والرفس واللبط والكرابيج مباشرة أو من خلال أدوات الدولاب أو الكرسي الألماني. (.. الجحيم جدد قواه، والأرض انشقّت عن المزيد من العسكر، تبعثروا في الساحة وتوازعوها، أمروهم بخلع ملابسهم كلها، وأوقفوهم عرايا. تداعت بعدها طقوس التعذيب الرهيبة، الكابلات والكرابيج والسياط والقضبان الحديدية تنهال عليهم، تصيبهم كيفما اتفقت، على الرأس والوجه والظهر والصدر والأيدي والأرجل، لا يكاد يأخذ نفساً حتى يلفظه، خرير اللهاث يفحّ من الأفواه، ويصر في أذنيه، هل كان يلهث مثلهم؟ الضرب لا يفتر، يجهد في تفاديه من دون جدوى، إن أفلت من لسعة سوط أو كرباج، فاجأته ضربة عصا، قضيب حديدي، ركلة بوط عسكري، يسقط أرضاً وينهض قفزاً، لئلا يتكاثروا عليه ويصبح فريستهم..) صفحة 164.
أدار الكاتب بسرديته الأحداث على نحو قابل للحياة والتجدد، مستخدماً ضمير المتكلم عبر الشخصية المحورية الأولى “القاضي سليم الراجي”، الذي يترك له الكاتب حرية نقل الأحداث متوارياً، يحرك الشخصيات وفق مسيرة الأحداث المتلاحقة، وزيادة جرعات الإثارة وفق سير الشخصيات والمصائر التي آلت إليها، ثم انتقاله بشكل سلس لاستخدام ضمير الغائب من خلال شخصيتيه المحوريتين الطبيب “عدنان الراجي” و”النقيب سليمان”، إضافة لشخصيات المستوى الثاني، والشخصيات الثانوية والمساعدة، حسب أهميتها ودورها في سياق أحداث الرواية.
كما لا تخلو صفحات الرواية من لغة سردية تحاكي لغة التصوف، خصوصاً في مشاهد التعذيب وتوصيف مشاهد الإبادة (.. الشيخ عبدالباري لم يكن أكثر مني إدراكاً، أم محمد عشية وصولها ليلاً إلى المسجد، قالت له، إن الله أجّل موتها ليحيا الرضيع. هل تخيّل ما قالته؟ لا. اعتقد الشيخ أن الله خصّها بنعمة الكشف، هبة لا تمنح إلا للأتقياء الطاهرين، وأن مكانتها توازي مكانة الأولياء والصالحين وتستحقها..) صفحة 142. ولم تخلُ الرواية من المباشرة في بعض الفصول، خصوصاً تلك الفصول المتعلقة بالقصر الرئاسي، وما تلاها من مواضيع تتعلق بمواجهة الثورة السورية، لكن رغم ذلك ظلّت منحازة للجانب الأدبي الطاغي على النص الإبداعي.
شخصيات الرواية..
الشخصيات الرئيسية
(المستوى الأول): الراوي (القاضي سليم الراجي)، يعتمد عليه الكاتب في سرد الأحداث (ضمير المتكلم)، والتواري خلف الشخصيات الأخرى لإتمام عملية السرد الكامل للأحداث، من الشخصيات المركبة والفاعلة في العمل، بصماته في رواية أحداث الرواية جلية. من القضاة النزيهين، ممن يؤمنون بالإصلاح والتغيير عبر الوسائل السلمية، حتى مع اندلاع الثورة السورية كان مؤمناً بالإصلاح، (خطاب الرئيس، فرصة تاريخية ضاعت، كان بوسعه إرضاء المحتجين والمتضررين، بإجراء بعض الإصلاحات تؤدي إلى إيقاف المظاهرات، قد لا تزيد عن إصلاحات متدرجة على المدى الطويل، تذهب بسورية إلى الديمقراطية، كان اجترح مأثرة، دخل بها التاريخ من أوسع أبوابه، أفلت فرصة لا تعوض، واختار معالجة الأزمة بالرصاص والمخابرات..) صفحة 466 لكنه في النهاية يرى الفاجعة بجلاء ووضوح، (سورية ذاهبة إلى المجهول.. ربما كان عظيماً ورائعاً، لن يعود شيء إلى ما كان عليه، سيكون بلداً آخر. ليته يتسع للجميع..) صفحة 467
الطبيب “عدنان الراجي”، وهو المحور الرئيس في سردية “السوريون الأعداء، يقع فريسة سهلة وطيعة للظلم، بدءاً بقتل عائلته (والده وزوجته وأولاده الثلاثة)، ونجاة الرابع (الرضيع الذي لا يعرف عنه شيئاً)، ثم انتقاله إلى فروع الأمن في دمشق للتحقيق، الذي ترافق مع سلسلة مميتة من برنامج يومي في تعذيب المعتقلين وانتزاع الاعترافات منهم، ثم انتقاله إلى سجن تدمر، وهناك وبنصيحة من الشيخ كريم، خطيب جامع الهدى في حماة (المعتقل معه)، أن لا يبوح بمهنته، حتى لا ينوبه تعذيب أشد وأقسى كونه جامعي، وفي المعتقل يتحول الطبيب عدنان إلى مجرد رقم، المعتقل رقم 77 ويعيش حالة فصام ما بين الرقم، المعدوم الإحساس، وما بين الطبيب الإنسان، صراع داخلي ينتابه في كل جلسة أو رقدة إضافية، يتحسس جراحه، ينتصر الرقم أولاً، ويسيطر عليه الإحساس باقتراب النهاية مع جرعات متواصلة من الألم الناجم عن التعذيب، أو محاولة إدراك النهاية، المتمثلة بالموت لإنهاء عذاباته اليومية، لكن إحساسه يتجدد في محاولاته المتكررة للجانب الآخر من حياته، ومصير عائلته، لكن حالة الفصام تتجدد يومياً، (.. غادر الرقم 77 ما يشبه الحياة إلى ما يشبه الموت. عبثاً لن يستعيد تلك ولن يظفر بذاك، عالق بينهما، رعب لا خلاص منه إلا بملاقاة المنية، وكانت في عالم الغيب، وعزيزة المنال. طالما أن حياته ومماته رهينة الظلم والظلام والظالمين..) صفحة 171، وربما إحدى أهم تجلياتها الصراع الناشئ عن تبادل أدوار سجينين، أسامة وحسان، حيث يختار حسان أن يكون بديلاً لصديقه أسامة ويذهب بمحض إرادته، مصحوباً بموافقة الشيخ كريم، إلى حبل المشنقة، وهو الذي أوشك على انتهاء محكوميته، فهنا وعلى وجه التحديد ينتصر الطبيب عدنان الإنسان على الرقم 77 فيرفض مبادلة الأدوار، ويعتقد بأنه تم التغرير بحسان من قبل الشيخ وصديقه أسامة، الذي استثمر صداقته، وآثر الحياة بدلاً عن الموت بسبب دوره المتقدم في مراكز وخلايا الطليعة المقاتلة، لكنه يرضخ لإرادة حسان الذي ذهب إلى المشنقة بإرادته وتصميمه. تستمر عذابات السجناء وهم يتعرضون للتعذيب، وتنتشر أمراض السل والكوليرا، يموت الكثير من السجناء، ويمر موتهم عابراً، لا تشقه سوى حشرجات المنتحبين، شخصية الطبيب عدنان من الشخصيات المركبة، التي تدلل على وعي متقدم، ويتجلى ذلك بوضوح في موقفه من قاتل عائلته بعد أن يخرج من السجن في السنة التي تزامنت مع اندلاع الثورة السورية، فبعد أن يلتقي بالنقيب القاتل في بيت شقيقه القاضي، يُعلنها صراحة وفي موقف مذهل أن النقيب هو من قتل عائلته، وهو من سجنه كل هذه السنوات، ثم يخرج من عند شقيقه بعد أن يخرج النقيب (المهندس)، ويقرر الانتقام، وبمساعدة من صديقه أسامة (الذي يحمل اسم صديقه حسان)، يتسلل إلى بيت النقيب ويشهر عليه مسدسه، وهنا المفارقة العجيبة بأن الساعي للانتقام تتداعى أمامه صور أولاده وزوجته وهم يُقتلون على يدي النقيب، ثم يتساءل عن حجم المعاناة والألم وهل يمكن موازاتها بالطلقة التي ستنهي حياة النقيب، هل ستكون كافية في إرواء غليله، وهل تساوي كل العذابات التي تعرض لها؟ في البداية يقرر أن يقتله ببطء يوازي رحلة الألم التي امتدت لثلاثين سنة مضت، لكنه يعرض عنها، فستكون عارضة وغير مؤثرة، وفي النهاية يقرر تركه بعد أن يقول إن ثأره سيتحول إلى مسألة شخصية إنْ قتله بهذه الطريقة، إنهاء حياته بسهولة لا يساوي رحلة الألم الطويلة وعذاباتها، ثم يذهب إلى مكانه الطبيعي بين الثوار، يعالج الجرحى والمصابين.
(المستوى الثاني): النقيب سليمان، وهو أحد مراكز القوى الأمنية، ضابط أمن لواء في الفرقة الثالثة، ثم المهندس في القصر الجمهوري، الذي يقود عمليات غاية في الدقة، تبدأ بالاعتقال وتصل إلى القتل والاغتيال، والنقيب سليمان ابن قرية الرئيس، كان طالباً فاشلاً، انتقل إلى مدينة حلب لمتابعة دراسته الثانوية، وتحت ضغط الواسطة المتنفذة ينجح في الالتحاق بكلية الهندسة، والواسطة هي وزير الدفاع الذي سيصبح رئيساً لسورية بعد أن أقصى معارضيه في حركة أطلق عليها الحركة التصحيحية، وكان سليمان قد وشى بخاله (أحد أكبر المعارضين الحزبيين للأسد)، وأخبر وزير الدفاع الذي سيطيح بالكل ويستولي على السلطة عن المكان الذي كان يلتجئ به متخفياً عن أنظار عسس الأسد، الخال الذي رفض تزويجه من ابنته رباب، والمعارض سابقاً لزواج شقيقته من أبيه، هذه الوشاية التي ستنهي حياة خاله في السجن، وتقطع الطريق على علاقته بأمه وأبيه، ومعظم أهالي ضيعته، وشاية الخال، الذي يعتبر في الأوساط الاجتماعية العربية بمقام الوالد، يقتل سليمان الخال في استعادة لعملية قتل الأب (عقدة أوديب)، وهو المثل الأعلى والشخصية الفاعلة والمؤثرة في المجتمع، ومن هذه اللحظة سيدخل إلى كلية الهندسة المدنية (لم يستطع التخرج) مشفوعاً بوساطة كبيرة (الوزير الرئيس)، ثم ينتسب إلى الكلية العسكرية بنصيحة من الرئيس ليتخرج ضابطاً، ويتسلم مناصب أمنية في الفرقة الثالثة، التي تشارك في حملة إبادة وتدمير مدينة حماه عام 1982. ثم يتدرج في مكاتب القصر الجمهوري، حيث يمثل القصر الجهوري في أيام درعا الدامية في الأشهر الأولى من الثورة السورية، إضافة لمشاركته الفاعلة في صناعة القوى الناعمة، التي تؤسس لتأثيث امبراطورية الخلود لشخصية حافظ الأسد، والتي تنتهي بتكريس مقولة الأب الخالد (الإله)، عبر تكريس صور الرئيس والتماثيل التي شخصت في ساحات المدن والبلدات، وتعويم شعارات ومقولات الرئيس، وبعدها تحولت فكرة الخلود الخاصة بالرئيس الأب إلى فكرة التوريث للابن، لكي ينعم الأب بالخلود الأبدي، فيما بعد يلعب دوراً فاعلاً في التصدي للثورة السورية بداية من مجازر درعا، ثم المشاركة بخلية الأزمة (اللجنة الأمنية)، التي اجترحت الحلول الأمنية باستخدام البطش والتنكيل والاعتقال لإخماد جذوة ثورة الحرية والكرامة، (.. تحطيم التمثال وتمزيق الصور، كانا الخبر الأسوأ، لم يكن لخبر سواه أن يجعله يتشاءم، إنجازه الرفيع حُطم، وداسته الأقدام. الشبان يهللون، أحدهم اعتلى تمثال الرئيس المحطم. كيف تجرأوا؟ تخيل الساحات خالية من تماثيل الرئيس، والشوارع والمكاتب والمحلات والمؤسسات والإدارات، لا تزينها صوره… ما عمل عليه ورعاه، جهد سنوات ضاع هدراً) صفحة 439. تصطدم شعارات الخلود التي تم تكريسها سابقاً مع شعارات جديدة تسقطها من حسابات السوريين، فيبرز شعار “يلعن روحك يا حافظ” مقابل شعار “الأب الخالد”، و”الشعب السوري ما بينذل” أمام شعار “الأسد أو نحرق البلد”، أو “حلّك يا الله حلّك تحط الأسد محلك”. ثم تكون نهايته غيلة (الموت انتحاراً ويحصل على امتياز شهيد أو أن يُقطّع بأيدي عسس القصر)، بالأدوات ذاتها التي حلم أن يصنع بها تاريخاً ومجداً غابراً يختار الموت انتحاراً، وقبل أن ينتحر المهندس مرغماً، يردد: (.. هذه البلاد، لا يؤسف عليها، لن يبقى حجر فوق حجر، يعرفهم، أليس واحداً منهم؟ يرى بوضوح ما بعده وضوح، الآلاف المؤلفة من القتلى والجرحى والمفقودين، وذوي العاهات. لا تأسف، هذه بلاد الخلود والموت، المجد والخوف. لم يعانِ من الخوف، ولم يظفر بالمجد، الخلود لغيره، والموت له.. كل هذا الموت والدمار، ما كان ليحدث، لو أننا…. وضغط على الزناد لئلا يندم.) صفحة 472
الرائد مروان السنطري، ينحدر من أسرة سنيّة دمشقية، ملكي أكثر من الملك، شخصية انتهازية متمردة، ينظر إلى الدين نظرة سلبية، يفعل أي شيء لكي يصل إلى مبتغاه، يمارس التعذيب بحق المعتقلين بلذة طافحة، تقرباً للسلطة وإثبات مكانته وولائه المطلق لسلطة الأسد، ولا يتورع عن إذلال الناس كبارهم وصغارهم، يتعرض للاغتيال من قبل مجموعة تابعة لسرايا الدفاع، في إشارة لموقفه من المحاكمات التي جرت في حقل الرمي إبان أحداث حماه الشهيرة، بعد أن هدده ضباط السرايا علناً، وعملية القتل تمت جهاراً نهاراً أمام بيته في دمشق، بعد أن أوثقت المجموعة مرافقته، ثم أردوه بالرصاص، وتم إعلان استشهاده فيما بعد على أيدي جماعة الطليعة المقاتلة، انتقاماً عن أعماله في حماه.
لميس الطالبة في كلية طب الأسنان، دخلت كلية طب الأسنان مشفوعة باتباع دورة مظلية، والهجوم على جمع من الفتيات في أحد شوارع دمشق وانتزاع غطاء الرأس عن المحجبات، بعد أن تم تكليف المظليات بمهمة وطنية وبحماية جنود سرايا الدفاع التي يقودها رفعت الأسد بنزع الحجاب عن النسوة المحجبات، (.. حركة جريئة هدفت إلى القضاء على ظاهرة متخلفة من العهود الرجعية، أخفق الاتحاد النسائي في التوعية منها، فأخذ قائد سرايا الدفاع على عاتقه إخراج النساء من الانغلاق الذي يرزحن فيه بتعريض رؤوسهن للهواء والضوء والعيون.. ولو بالقوة..) صفحة 190. ولميس شخصية انتهازية تقع في غرام الرائد مروان، ثم تنتقل إلى أحضان النقيب سليمان الذي يوفر لها الحماية كما كان الرائد يؤمنها لها، إضافة لاستغلاله في عمليات التهريب التي تقوم بها من لبنان إلى سورية، تتحول فيما بعد إلى سيدة أعمال كبيرة، وتتوسع أعمالها التجارية في الاستيراد والتصدير، لا تتورع عن استخدام نفوذ حاميها في عملياتها المشبوهة، سلاحها توفير الجنس مقابل الاستمرار بتنفيذ أعمالها، وتبرر ذلك أولاً لرعايتها لأمها المجنونة، لكن فيما بعد تتوسع دائرة أعمالها ونفوذها بين رجال المال والأعمال، عبر استثمارها لنفوذ عشيقها النقيب سليمان (المهندس)، الذي يوفر لها الأجواء الملائمة لعمليات التهريب وأعمال مشبوهة أخرى.
وهناك شخصيات ثانوية مؤثرة في العمل، المستشار راشد الذي يحاول جاهداً بالتعاون مع عدد من القضاة الشبان على إصلاح ما يمكن إصلاحه في دوائر القضاء في دولة أمنية، يسيطر الأمن والجيش على مفاصل الحياة فيها، من مؤسسات ومنظمات وأحزاب ودوائر صنع القرار في المواقع السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. المحامي حازم (ابن الطبيب عدنان الراجي)، غالب (المعارض والصديق والزميل السابق لابن ضيعته النقيب سليمان)، وأسماء عديدة واكبت أبطال الرواية (أبو حسين سكرتير الرئيس، رفاق المعتقل، ضباط وقضاة ومستشارين ومسؤولين في قطاعات الدولة)، أدت أدوارها على نحو متميز، وشكلت إضافة لافتة للعمل الروائي.
رواية “السوريون الأعداء” من الروايات الهامة، وتنبع أهميتها من محاولتها الجريئة في رصد الفترة السورية منذ نهاية ستينيات القرن العشرين إلى سنوات الثورة السورية الأولى، وهي تتجاوز التأريخي والرصد المباشر إلى فضاء أدبي أوسع، يحاول أن يجيب عن أسئلة إشكالية، لم يجب عنها أحد فيما سبق (ربما قلّة قليلة من الأعمال الأدبية التي لم يتوفر لها المناخ المناسب للتعبير عن ذاتها)، يغلفها رؤية إبداعية في رسم مفردات ومشاهد الحياة اليومية، تم تغييبها عن المشهد التاريخي السوري القريب، أو ما أصطلح على تسميته التاريخ المظلم لسورية الأسد، ومن أهم رسائلها أن الحوامل الأدبية الإبداعية قادرة، إن قيض لها مبضع جراح، أن تحيط بما غفل عنه الزمن قصداً وعن سابق إصرار عن هذه المرحلة الحساسة من حياة السوريين، وأعني بالأخص ما جرى من أحداث دامية في مدينة حماه، وما حصل في سجون ومعتقلات النظام من تعذيب وتنكيل وقتل طال المعتقلين السوريين على مدى سنوات طويلة.
-
المصدر :
- الرقة بوست