لم تُحاصَر قضيّة، مثل الحصار الذي شهدته وما زالت تشهده القضيّة الفلسطينية. قضيّة لا تُخفي حمولتها السياسية، والإنسانية، والتاريخية، والأخلاقية، والدينية. فمن الناحية السياسية، تعتبر من مخلّفات الاستعمار الذي رحل من العالم في القرن الماضي، بعد أن خلّف في منتصفه أبشع صوَره لاستعمار استيطاني في منتهى البشاعة. ومن الجانب الإنساني، يتبدّى في احتلال بلد وطرد شعب من أرضه ونهب ممتلكاته. أمّا من الناحية التاريخية، فتنحو إلى تزوير التاريخ، فالصهاينة يعودون إلى ادّعائهم الزائف “أرض بلا شعب”، وكأنّ فلسطين لم يكُن لها وجود إلّا فارغة من سكّانها الذين يعيشون فيها منذ مئات السنين.

ومن الناحية الإنسانية، اعتبار الفلسطينيين، كتلة بشرية زائدة. أمّا من الناحية الأخلاقية، فافتقاد جميع الادّعاءات والدعاوى الإسرائيلية إلى المصداقية، ولا يفسّر إغماض الغرب عينيه عن أكاذيبهم، إلّا بالافتقاد إلى الضمير. أمّا من الناحية الدينية، فالمحاولات المستمرّة لتغييب المقدّسات الإسلامية التي تحتضنها مدينة القدس المحتلّة، ومحاولات إنكارها. لذلك لم يكن من المستغرب أن تطلق المقاومة وصف “طوفان الأقصى” على عملية السابع من أكتوبر.

هناك الكثير ممّا يُمكن أن يُقال عن الغبن الفادح الذي نال الفلسطينيّين، ويُمكن البرهنة عليه من الواقع اليومي المعاش، من دون الحاجة للعودة إلى التاريخ والمؤرّخين، ولا النبش في الأرشيف بحثاً عن الوثائق التي تدعم الحقّ الفلسطيني، يكفي العودة إلى قرارات الأمم المتحدة، والفظاعات الإسرائيلية المرتكبة بدعم أميركي وعلى رأسها الإبادة المستمرّة منذ نحو عشرة أشهر، والتي تنتشر وقائعها على وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، وتندّد بها مظاهرات المتضامنين في الجامعات، عدا مداخلات المفكّرين، ونداءات الأمين العام للأمم المتّحدة، والأخبار لا تكفّ عن نقل حدث غزّة يوميّاً، فالإبادة لم تتوقّف.

يكشف التحيّز الغربي في مواقف سياسيِّي الغرب وأفعالهم عن السقوط الأخلاقي لدول الديمقراطيات على النقيض من ادّعاءاتها الإنسانية، فالملاحظ عدا عن مواقفهم الشائنة في تبرئة “إسرائيل”، والسعي إلى عدم إدانتها في المحافل الدولية، العمل على التغطية عليها، بينما مواقف الغرب نفسه، تجاه الحرب الروسية في أوكرانيا مختلفة تماماً، ففي مثال صارخ يتشابه مع الحرب على غزّة، أدان الغرب القصف الروسي لمستشفى الأطفال في كييف، وسارع إلى استنكار هذه الجريمة الوحشية، بوصفها انتهاكاً لقوانين الحرب، بعبارات شديدة اللهجة مرفقة بعقوبات، كانت فيها على حقّ.

الحقيقة الثابتة أنّ الفلسطينيّين لن يتنازلوا عن حقّهم في دولتهم أبداً

بينما تجاهل قصف “إسرائيل” لعشرات المستشفيات في القطاع الفلسطيني، الذي أدّى إلى تدميرها بالكامل وقتل من فيها، عدا عن قصف مخيّمات النازحين من الأهالي، ومنع شاحنات المساعدات من الدخول إلى غزّة، وانتشار مجاعة طاولت الأطفال والنساء والشيوخ، ما الذي فعله الغرب، هل استنكر؟ لا، الديمقراطيات الغربية ذات وجهين؛ وجه يرى، ووجه لا يريد أن يرى، وإذا ادّعى عدم الرؤية، فلأنه يتعامى.

بالرغم من أنّ الغرب أدار ظهره للقضيّة الفلسطينية، ما زال يجد في حلّ الدولتين اقتراحاً معقولاً قابلاً للتطبيق، لكنه لم يتقدّم نحوه بخطوة، لأن “إسرائيل” غير موافقة عليه، يعرف أنّ رؤساء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبين جعلوا هذا الحلّ مستحيلاً، لكثرة ما قيّدوه بالتعقيدات والإشكاليات، بينما المستوطنون يقضمون الأراضي الفلسطينية بتحريض ورعاية أجهزة الكيان الإسرائيلي، واقتنع أغلب الإسرائيليّين تحت تأثير حكوماتهم، بأن وجود الدولة الفلسطينية يشكّل خطراً وجودياً على وجودهم ووجود “إسرائيل”.

من عام إلى آخر يتأكّد أن لا حلّ طالما أنّ الإسرائيليّين يعتقدون أنّ لهم الحقّ المُطلق في طرد الفلسطينيّين، إن لم يكن قتلهم، واستباحة كامل فلسطين، ما يلغي حلّ الدولتين، لكن ما البديل؟

ليس الفلسطينيون وحدهم في العالم، بل أي شعب يتعرّض لهذا العسف والقمع والنهب طوال عقود، في ظلّ أقسى الظروف سينتفض ضدّ المحتلّ. إنّ الحقيقة التي بات الجميع يعرفها، هي أنّ الفلسطينيّين لن يستسلموا أو يتنازلوا أبداً عن استعادة دولتهم. وفي التاريخ حروب دامت مئة عام وأكثر. هذه الحرب، لن تتوقّف، ما دامت قابلة للاستمرار، إن لم يفهم المجتمع الإسرائيلي بالذات، أنّ السياسيّين يضلِّلونه، والغرب صامت لا يتجرّأ على التدخّل وفرض حلّ الدولتين، أو أيّ حلّ آخر يضمن للفلسطينيّين وجودهم على أرضهم.

إذا لم تفكّر أميركا ومعها الغرب، بأن يدعوا القوانين الدولية تأخذ مجراها، وعدم استثناء “إسرائيل” منها، فسوف يتواصل هذا الاحتلال الدموي، وهو المُرجَّح فعلاً، يؤكّده تصويت الكنيست الإسرائيلي مؤخّراً على قرار برفض إقامة دولة فلسطينية. لم يعلّق عليه الغرب الداعي إلى حلّ الدولتين، ماذا يسمّى هذا التجاهل؟ إنه السقوط الأخلاقي.