قبل أن تعتبر السعادة شيئاً من الممكن السعي وراءه وربما إدراكه، اعتبرت قديماً هبة سماوية، منحة تهبها الآلهة لمن تشاء. الفهم الديني اعتبرها أقرب إلى الخلاص والنجاة، لا تتحقق إلا في الآخرة.

أما الحياة الدنيا فدار شقاء وامتحان، ليس لأن حياة الآخرة خالية من الهموم والمتطلبات، بل بسبب الإنصاف، ففي الآخرة يحاسب المرء على أفعاله، فتأخذ كل نفس نصيبها من الجزاء. العدالة الإلهية موثوقة، تطمئن البشر إلى أحكام لا تخضع للأهواء ولا للأمزجة؛ عدالة ما بعدها عدالة.

في عصر الأنوار، انقلب مفهوم السعادة، لم تعد سماوية، أصبحت دنيوية ومشروعاً لا يكتمل. تجلى في تضاؤل الشهوة إلى المطلق، وحسب تعبير بول هازار، أعيدت السماء إلى الأرض. آنئذ اعتبرها سان جوست اكتشافاً: السعادة كلمة جديدة في أوروبا.

وتسابق الأدباء والفلاسفة إلى الحض عليها، فقال ديدرو، لم يعد هناك إلا واجب واحد، هو أن يكون الإنسان سعيداً. وأطنب بوب في مديحها: أيتها السعادة، أنت غاية وجودنا ونهايته. مهما كان اسمك: خير، رضى، لذة، راحة..

السعادة المقصودة لم تعد واجباً، بل حق، الحق في ما تمنحنا إياه الحياة من بهجة، وارتبطت بحياة الفرد الواقعية، وبعلاقته بذاته وبالآخرين. بات من الممكن أن يطولها الانسان، فأعيد الاعتبار للذة بدلاً من قمعها بالزهد والشظف، وتحولت إلى اهتمام الإنسان بنفسه، والمساهمة في تحقيق سعادة الآخرين.

“السعادة المقصودة لم تعد واجباً، بل حق، الحق في ما تمنحنا إياه الحياة”

أصبحت الفضائل الجديدة تقوم على التسامح والإحسان والإنسانية، خلافاً لزمن الفروسية والنبالة، لا ترتكز على العظمة، ولا التضحية من أجل مجد مرتبط ضمنياً بالقدسي، ولا بالقيم الأرستقراطية كالشرف والنسب، في الواقع إن هذه المقولات كانت تحتضر.

في العصر الحديث، أصبح مفهوم السعادة يشكو من عدم الوضوح. هيمن الإحساس بأننا نسعى إلى ما لا وجود له، وتصوّر كثيرون من فرط الضغوط النفسية، أنها شعور زائف والإلحاح عليها نوع من الترف، وليست أكثر من وهم جميل، نلغو به ولا نعرفه، ومهما اقترب الإيهام من الواقع، فهو ادعاء.

كما بات اللهاث وراء الحياة مانعاً للسعادة، عزّزه الافتقاد إلى الأمان في عالم مضطرب مهدّد بالحروب، ويفتقر إلى المعنى. وإذا كان لا بد من المعاناة حتى نشعر بالسعادة، فالألم والكفاح في سبيل تحقيق الأهداف التي نحيا من أجلها، نوع من العبث، الأكثر واقعية أنها مرتبطة بالظروف الخارجة عن إرادة الانسان، ولا يستبعد أن تكون في داخله، مجرد قناعة ذاتية مبعثها الشعور بالرضا.

على ماذا، أو من ماذا؟ افتراضات أشبه بسلسلة لا نهائية قد تمنحنا السعادة أو تحجبها عنا، وغالباً ما يحبطها الجشع والأنانية والحماقة البشرية.

إذا كان للسعادة دورة، فارتداد الإنسان إلى التديّن عن طريق الموت انتحاراً، رفض للسعادة على الأرض؛ وامتناع عن الحياة التي وهبها الله لنا، ولو كان مستقر السعادة في السماء.