يشهد التاريخ في المنطقة العربية أحداثاً متسارعة على مدى ثلاث سنوات، تفوق طاقته على الاستيعاب، مجرد تسجيلها يستدعي اللهاث وراءها. في المستقبل سينتظر طويلاً، ريثما يقرر قولاً بشأنها، مع أنه قيل ويقال الكثير عنها، وحولها، منذ بدأت، ما شكل أَكواماً هائلة من الغث والسمين، ستسهم، فيما بعد، بالتشويش على الحقائق، مادام هناك من يختلق الأكاذيب. ولاسيما أن الحدث لم يعد أسير المنطقة، فالدول الكبرى لم تقصر بإطلاق القنابل الدخانية، للمزيد من التعمية. ولم تعد الفصول الأربعة كافيةً لتفسير تقلبات الحدث ومتغيراته. من حسن حظ العالم أَن التاريخ لا يكتب مرة واحدة، إذ هو دائماً معرض للكتابة، من نواحٍ متعددة، مختلفة ومتناقضة، بحسب وجهة النظر إليه، ودائماً تحت طائلة إعادة النظر، بدعوى ظهور حقائق جديدة.
هذا بالنسبة للتاريخ، ماذا عن الأدب، والمقصود الرواية بالذات؟ هل تنتظر حتى يضع الحدث أوزاره، ليأتي دور الروائيين، ليشبعوه تأملاً، ويركّبوا قصةً ما، غير أَن سيرورة الحدث الذي نعيشه، ليس إلى انتهاء، من فرط امتداداته في الماضي، وتشابكاته في الحاضر. أما عن المستقبل، فالمشوار طويل، طالما تشعباته تتلمس طريقها في المجهول.
اختصاراً، في وسعنا القول إنّ التاريخ استعاد حيويته في بلاد العرب، وحتى يرسو على حال، قد يحتاج عقوداً طويلة، غير أن الرواية لا تنتظر. صحيح أَنها ارتبطت بالتاريخ منذ بواكيرها، وعلاقتها به لا تحكمها المصادفة، بل الحياة نفسها التي لا تكفُّ عن التدفق، فالرواية مضطرة، عن خطأ أو صواب، إلى مجاراتها، مادمنا نعيش فيها، لا خارجها.
ما يميز الرواية عن التاريخ، على الرغم من علاقتهما العضوية، والمسيرة التي تجمع بينهما، أن ما يفرق الواحد منهما عن الآخر دليل صحة، فالرواية، على الرغم من أنها تمتح من التاريخ ما يقيم أودها، إلا أنها، في الوقت نفسه، تذهب بعيداً عنه. من جانب آخر، يحيط التاريخ نفسه بقواعد صارمة، الرواية عاجزةٌ عنها، وإِلا خرجت عن جلدها، وأَصبحت نسخةً ممسوخة عنه. فالرواية لا تُضارع التاريخ، وليست على سباقٍ معه، وما هي في سبيله، يقصر عن التاريخ، وإن كانت تزاود عليه. وما يريد المؤرخون التبصر فيه، لا يُعنى الروائيون به. فإذا كان التاريخ يضع الحدث في المقدمة، فالرواية تضع الحدث في الخلفية، من دون الاهتمام إلا بتأثيره في البشر. ما تتوغل فيه الرواية يقف التاريخ على أعتابه، ويهمه كأرقام، فالضحايا هم أَعداد بمئات الآلاف والملايين. أَما الضحايا في الرواية، فالإنسان الفرد، فيه الكفاية ليضع الحرب موضع الإدانة واللعنة. لا يشرح التاريخ الكارثة، إلا من ناحية الخط البياني للاقتصاد، وما أخلفته من ضائقةٍ ودمارٍ وكسادٍ وسوق سوداء. أَما في الرواية، فالفاقة والجوع وفقدان الرجاء هزيمة للقيم وانحدارها إلى العبث، ما يأخذ البشر إلى المعنى الوحيد لها؛ موتٌ بلا جدوى، ولو كان حافلاً بالألم والانسحاق، الروايةُ حالاتٌ إنسانية، وحكاية تفاعلها مع السياسة.
لا يغوص التاريخ في النفوس، ولا يعنى بالبشر إلا كجماعات، وما نتج عن الحروب من سياسات خاطئةٍ، أو صائبةٍ، وأسبابها، وبناء الدول، وتحلل الامبراطوريات. التاريخ صاحب بصيرة، ولمّاح، لكنه قاسي القلب وذو إرادة صلبة. بينما الرواية نزقة، ترمم ثغرات التاريخ بالخيال، وترتكب من الأخطاء ما يعزّز استنطاقها الواقع والتوغل فيه، وما بلادة خيال التاريخ أَمام نكبات البشر، إلا لعجزه عن التعبير عنها، والإخفاق في التماهي معها. الخيال عدو المؤرخين الرصينين.
لا تكتسب الرواية جنسها، إِلا بمقدار ما تعيد كتابة التاريخ على طريقتها، لا نظريات، الواقع فحسب. لا تقيم وزناً للعظماء، إلا بما جلبوه على البشرية من أتراح وأفراح. تنحاز للإنسان بشكل مطلق. مثلما فعلت جين أوستن، اعتبرت مصائر بطلاتها أهم من أمجاد حروب نابليون. وليس في هذا شطط.
-
المصدر :
- العربي الجديد