هل كان حنّا مينه، في سيرته الذاتية التي سجّلها في أكثر من كتاب مثل “بقايا صور” و”المستنقع” و”أشياء من ذكريات طفولتي” وأيضاً “على الأكياس”، يبالغ في عيارات البؤس ووصف الفقر؟ كان مينه شيوعياً، أو مقرَّباً من الشيوعيّين. في ذلك الوقت، كان من المستحسن والمطلوب الإلحاح على الفوارق الطبقية، ومعاناة البروليتاريا.

إذا لم يكن حنّا مينه قد عانى كما يدّعي، وهو مجرّد افتراض، لكنّ البؤس كان سارياً في الطبقة الفقيرة، وكانت أوضاعها تدعو إلى الكتابة عنها، والدفاع عنها، على الأقل الوقوف إلى جانبها. في الحقيقة رغم القسوة، ما وصفه كان أقلّ، فالروايات لا تجاري الواقع.

عموماً، كان مينه أحد المثقّفين ذوي الاتجاه اليساري الذين خذلوا الربيع العربي، في وقت كان فيه قد تجاوز التسعين من عمره، وتدجّن في أحضان وزارة الثقافة التي قضى فيها أكثر من عشرين عاماً. وهناك من حذّره من أنّ الثورة هي ثورة الإسلاميّين، مع أنّه طوال عمره لم يحفل بقصّة الأكثرية والأقلّيات، ولم يأخذ بها.

هذه المقدّمة كي نمنح الروائي اليساري السوري عذراً، ليس أيديولوجياً، ولا يمكن أن يلام عليه كثيراً، إنّه الكبر في السن والمرض والتعب من الحياة، وتقاعده منذ زمن طويل من المغامرات السياسية. وللتذكرة، أدّى دوراً روائياً رائداً، انعكس في الثلث الأخير من القرن الماضي، على العالم العربي من المحيط إلى الخليج. كانت رواياته تُقرأ بشغف، وليس عن مجرّد هواية، بمعنىً ما كان معلّماً.

تكشف الرواية عن حقيقة كبرى من خلال حقيقة صغرى

يُعتبر كتابُه “بقايا صور” درّةً في السيرة الذاتية، من قوّة واقعيته التي تخلو من أيّ تشذيب، جماله في محاولته تقصّي الواقع من الذاكرة، وإن تخيَّل بعض القرّاء أنّها مجرّد رواية، على نمط ذلك التبادل بين السيرة والرواية، لكنّها لم تكن كذلك. كانت الحقيقة تُلمس بين سطورها دونما ادعاء.

في الغرب، لم يَعدم النقّاد الأسباب في ملاحظة أنّ هناك الكثير من الاختلاق في الروايات التي تخلط بينها وبين السيرة الذاتية، يوحي الكاتب بأنّه الشخصية المركزية في روايته، لتصدير صورة مثيرة عنه، لم تعدمها روايات سيلين وهنري ميلر، لا يمكن الثقة بمبالغات الخيال ولا بتداعيات الأفكار عندما يشط القلم، فيستولي على السيرة الذاتية لصالح الرواية، سواء تلاعب بها، أو وظّفها لحسابها، بحجّة أنّ من المعتاد ألّا تخلو من ملامح يستقيها الكاتب من سيرته، ولا يفوته الإشارة إلى أنّها لا تخلو من ذكريات عن علاقاته العاطفية، فادعاء مرغريت دوراس أنّ روايتها “العاشق” تروي قصّة حبّها، مشكوك فيها، لم تدع هذا إلّا من أجل إبهار القارئ، بينما لم يكن لها إلّا نصيب ضئيل من الحقيقة.

تعرّض فلوبير في روايته “مدام بوفاري” إلى شخصية حقيقية، ولو أنكر، فالرواية كانت حسب المدقّقين شخصية حقيقية، إن لم تكن دلفين ديلامار فهي لوبين برادييه، وربّما أُخريات من العاشقات الخاطئات في ذلك الزمن. لكن، سواء عرفنا أو لم نعرف، هل تضيف الشخصية الواقعية شيئاً إلى روايته؟

طبيعة الإبداع الروائي لا علاقة لها بالتحقُّق في ما إذا كانت السيرة الذاتية أو الرواية حقيقيةً أم لا، ولا يدعو عدم دقّتها أو مطابقتها إلى إنكارها. إنّ ما كتبه حنا مينه في “بقايا صور” يتجاوز السيرة الذاتية، ولا يخلّ باعتبارها تحفة روائية فعلاً.

ونستذكر في هذه المناسبة رواية “البحث عن الزمن المفقود” لبروست، لا يمكن وضعها تحت مجهر السيرة الذاتية إلّا بحذر شديد، وفي تعليق لبروست نفسه، حول علاقة روايته بحياته، يعترف بأنّه كان يلملم بعض شخصيات روايته من عدّة شخصيات، والحادثة من أكثر من حادثة، هذا إن لم يخترعها، لم يكن يتعقّب الواقع ولا الواقعة أو الشخصية. ففي الرواية مثلاً، ليست الشخصية إلّا من أجل اكتشاف نوعية الأشخاص من خلال سلوك فردي، كما محاولة اكتشاف عوالم المثقّفين من خلال سلوك بعضهم، دونما تخصيص بفرد معيَّن بالذات.

فالرواية تكشف من خلال حقيقة جزئية عن حقيقة عامّة، أو من حقيقة صغرى عن حقيقة كبرى.