يمتّ تيار “الواقعية السحرية” في الرواية، إلى الواقع أولاً والخيال ثانياً، أي أن هذا التيار يمضي في عالم الأدب تحت مظلة “الواقعية”، ويمتاز بأن ما تمتع به من خيال جارف، كان في التصاقه بالحياة. أما الذين أخذوا عنه وحاولوا تقليده، لم يهتموا بالواقع وانصرفوا إلى الخيال، واعتمدوا على الإدهاش، فأصبح الإبهار هدفاً بحد ذاته، فلم تعد الرواية أكثر من عمل منفصل عن الحياة، لا عملاً أدبياً يسائل الواقع، ويذهب إلى عمق المجتمع والذات والوجود.

لم تزد رواية الإدهاش عن افتعال حبكة وشخصيات وأحداث غريبة يرافقها تحولات عجيبة، مخصصة لمفاجأة القارئ، لا يقتضيها تطور الرواية، بقدر ما يعرقلها، ويذهب بها إلى التشتت. وكثيراً ما تؤدي هذه اللعبة من السعي وراء المفاجآت المتتالية والإبهار المستمر إلى انحلال الحبكة، وخلخلة البناء الروائي، وبدلاً من انغماس القارئ في الرواية، يتساءل عن عجائب تتراكم من دون مبرر، حتى اللغة الجميلة تفقد دلالاتها، إذ تطفو في فراغ، لا تعبر عن معنى، ولا تؤدي الغرض منها، بل تصبح غطاء لبهلوانيات خيال طليق من المنطق، حتى أن القارئ الشغوف لا يجد جواباً عما يدور في ذهنه، سواء عن تساؤلاته، أو تأثيراً في مشاعره.

اعتماد الإدهاش، كان من حصاد الرواية الباروكية في القرن السابع عشر، ومن فرط تعمده لفت الإعجاب، دعيت بالرواية المتحذلقة، وأصبح لها أعلامها من الكتاب، مثل الروائي غومبروفيل ومدام دو لافاييت. استطاع هذا الخيال الصرف الانتشار، رغم أنه لا يمت للواقع إلا بصلة واهية، فضيلته الكبرى أنه كان مسلياً، يمكن متابعة أحداثه كنوع من الفضول اللاهي، لمعرفة ما الذي سيحدث في الصفحة القادمة، هذا إذا كان القراء من ذوي النفس الطويل، ويطيب لهم التحليق في الخيال.

اعتماد الإدهاش، كان من حصاد الرواية الباروكية في القرن الـ17

فمثلاً في رواية “سيروس الكبير” لغومبرفيل، وهي رواية عاطفية، من الحجم الضخم، من ذوات المجلدات العشرة ويزيد، لا تمتلئ بالحب فقط، وإنما بالغزوات والمعارك وحوادث الغرق، وعقود الزواج وفسخها، والخونة والخائنات، والأسر والهروب، تتبعثر ديناميكيتها المفرطة بين الأزمنة والبلدان من دون مسوغ، حتى أحداثها الهامشية، تأخذ أدواراً ممطوطة، كتلك الرسالة التي سرقت وضلت طريقها خمس عشرة مرة قبل أن تصل إلى من أرسلت إليه. وتعمدت الإدهاش بأحداث كانت مضحكة أحياناً، كما في هذا المثال: “اندفع رجال ارتمين في بهجة، إبان معركة بحرية إلى سفينة القرصان، في حين تصرف رجال القرصان تصرفاً معاكساً، فكانت نتيجة المعركة أن هؤلاء البحارة الشجعان، دونما قتال قد تبادلوا سفنهم!”، بيد أن الكاتب في تصويره لهذا الحادث، لم يسع إلى المضحك، بل كان جاداً، الإدهاش فحسب.

العجيب الذي لا حدود له، مهما كان تافهاً وسخيفاً، لكنه مذهل، خاصة حول القدرات الخارقة لأبطال الرواية، إنما هي قدرة قريحة الكاتب يسبغها عليهم، تسهم في افتعال مصادفات روائية تهدف إلى الإدهاش للإدهاش، ليصبح الغاية، ولا عجب حتى لو كانت العقدة الغرامية هي التي تقود الرواية طوال مجلداتها العتيدة، على مدار عدة آلاف من الصفحات، هي السبب الوحيد لتطور الأحداث، فالقصة الغرامية التي هي العقدة، تُنسى طوال مجلد كامل، بينما الرواية تنوء بحمولتها من المغامرات والحروب والاختطاف والأسفار غارقة في المكائد والتجسس… يشفع لها هذا التسيب، الاستناد إلى روعة الخيال الكسيح، باستعراض لا يزيد عن دائرة مغلقة على نفسها.

بالعودة إلى زماننا، وإلى العجائبي في أدب ماركيز، كان المدهش في رواياته جزءاً من المنطق الداخلي لعوالمه، الواقع لا يغيب عنها، يختزن في داخلها وقائع حياة أميركا اللاتينية، مع حضور البيئة والسحر والتاريخ والبشر… البشر الحقيقيين على صهوة الخيال الرائع والسحر الجميل.