يبلغ الاعتقاد ببعض القرّاء، ومعهم بعض النّقاد، أنه يحق للكاتب عدم التعويل على الأسباب والمبررات في تسلسل الحدث في الرواية، وهو ليس مطالباً بكشف حساب عنها، الرواية تسوغ نفسها بنفسها. ليس في اعتقادهم مبالغة، لكن لا بدّ لأي رواية مهما شطّت في هذا الاتجاه، أن تمتلك القدرة على الإقناع، يستوي في هذا الروايات الواقعية والخيالية، الروايات سواسية، لا تمييز في هذه الناحية بين روايات “الأب غوريو” لبلزاك، و”الأمير الصغير” لاكزوبري، و”أليس في بلاد العجائب” للويس كارول،هذا ما يفرضه المنطق الداخلي للعمل الروائي.
الملاحظ في “الرواية السورية” المستمرّة تحت أنظار العالم، أنها غير مقنعة على الإطلاق على الرغم من قصف المدافع وآلاف القتلى، مع أنه من المفترض أن يكون للدمار والدماء القدرة على الاقناع بحكم الأمر الواقع أكثر من حجج السياسيين ودعاواهم وشريط الأخبار، غير أنها على العكس تعزّز عدم القناعة بما يظهر على السطح، وتنتقص من دوافع ما يجري منذ أكثر من عامين ونصف، وطبعاً على رأس القائمة ما تتذرّع به الدول المشاركة في حلحلة أزمة تتعقد وتتوسع كلما تدخلوا فيها أكثر.
ومن السخرية أن “الرواية السورية” لن تكون مقنعة، إلا إذا استعنّا بنظرية “المؤامرة” المبتذلة والمحتقرة من المحللين السياسيين حتى الصغار منهم، ومعهم المتطفلين الأكثر حماسة في الجدالات التلفزيونية. لن نتطرّق إلى المؤامرة على مستوى التنظير، كي لا نجردها من أسلحتها، إنما وهي تعمل على الأرض، خصوصاً أنه لا يعسر كشفها، طالما الجميع، وإن كان يتعامى عنها، منخرط فيها، وعن طيب خاطر. غير أننا نحتاج إلى أدلة أكثر وضوحاً، ولو كان المشهد الروائي سيغرق في الفانتازيا. اذ لا يعقل أن يجهد المجتمع الدولي ومنظمات الأمم المتحدة، والمنظمات الإنسانية الدولية، في العمل على إغاثة ملايين المتضرّرين من الصراع، لمجرد تطويق الأزمة وتوطينها ضمن حدود مخيمات اللجوء.
فالأعمال المضادة للمؤامرة حسب النظام، كانت على الشكل التالي، بدأت بدحضها منذ أطلقت أول رصاصة من قناص لاصطياد الإرهابيين، ثم عسكرة الأزمة باقتحام الدبابات لحمص وحماة منعاً لاستقلالهما عن سوريا، إلى دخول حزب الله إلى الداخل السوري لمقاومة مخططات إسرائيلية. إضافة إلى مبرّرات قوية هي الأخرى، حماية الأقليات، القضاء على تنظيم القاعدة، الدفاع عن الأهالي… ولهذا كانت مساندة إيران والروس الفعالة لمنع انتصار المؤامرة.
أما لماذا انقلبت الأمور إلى عكسها تماماً، فهذا يحتاج إلى إمعان نظر في أن القناصة قتلوا من الأطفال والنساء والرجال الكبار في السن أضعافاً مضاعفة، بالمقارنة مع قتلى الإرهابيين الذين لا تستحق أعدادهم الذكر. حمص وحماة لم تنفصلا عن سوريا، هاتان المحافظتان ومعهما باقي المحافظات السورية تفتتت إلى عشرات الكانتونات الصغيرة جداً، بينما حماية الأقليات لم تؤت مفعولها إلا بالهجرة، أو بتحملهم قذائف الهاون الغامض مصدرها. كما شهد تنظيم القاعدة ازدهاراً لم يحظ بمثيل له في أي بلد آخر. والمؤسف أن حزب الله لم يقاوم المخططات الإسرائيلية، بل زُج في معركة كانت شعاراتها طائفية.
على هذا المنوال، كانت المؤامرة هائلة الحجم حتى تغلبت على النوايا الطيبة للنظام ولمن وقف إلى جانبه. بهذا نستطيع فهم ما يحدث في سوريا، وكيف خرجت الأزمة من النظام، واضطر أصدقاؤنا الروس والإيرانيون إلى التحكم فيها، بحيث أن النظام لو فكر بخطة أخرى، لا يملك الا أن يستشيرهم في مصيره ومصير سوريا وما تبقى من السوريين.
كان يمكن لهذه المؤامرة أن تنهار فوق رؤوس أصحابها المجهولين، فيما لو كان النظام يشبه ما تعارف عليه في الفكر السياسي على أنه “نظام”، وكانت المعارضة تشبه ما يدعى في الأدبيات السياسية بـ”المعارضة”. في وضع كهذا نفتقد فيه حتى للأشباه، لن نرى مكوناً حقيقياً في الأزمة السورية سوى الشعب السوري. لو أن السوريين اجتمعوا وأخلصوا العمل وفكروا بأبنائهم الشهداء ودمائهم التي لم تسفك هدراً ولا عبثاً، لوجدوا حلاً شاملاً، يُعنى بسوريا موحّدة، كرمى للضحايا الذين لقوا حتفهم سواء عن حق أو عن باطل، إذ جميعهم شهداء.
هذا يحتاج إلى مأثرة، وهي صعبة المنال، ان لم تكن مستحيلة فعلاً، لكن الإرادة التي صنعت الثورة، تستطيع أن تصنع المصالحة، وهي ثورة أخرى، تستكمل سابقتها، ربما لم يفت أوانها بعد.
-
المصدر :
- المدن