فواز حداد كاتب وروائي سوري من مواليد دمشق سنة 1947، يعتبر اليوم هو الأبرز بين كتاب الرواية العرب والسوريين. فرواياته تتصدر المشهد الأدبي، وتتناول بجرأة قضايا سورية سكت عنها روائيون آخرون. فواز حداد الذي درس الحقوق من جامعة دمشق، كتب القصة القصيرة والمسرح والرواية، لكنه لم ينشر أياً منها حتى سنة 1991. شارك كمُحكِّم في مسابقة حنا مينه للرواية، ومسابقة المزرعة للرواية في السويداء. كذلك في الإعداد لموسوعة «رواية اسمها سورية». (العربي القديم) كان لها حوار مع الروائي العربي السوري.
لا جدوى للقلم أمام البندقية
س: وأنا أقرأ في تجربتك، لمحت فيها حدة الملاحظة والعناية بالتفاصيل، وقدرتك على استيلاد الرعب من العادي والمألوف. كيف يستطيع فواز حداد الاحتفاظ بنفسه وعدم الضياع في خضم الواقع السوري المرهق بالكوارث؟
– لا يُستثني الكاتب من الضياع، وربما كان الأولى به من غيره، في بلد بات مصنعًا للكوارث. بدورها، تعمل الكتابة على انتزاع الكاتب من الضياع، على أمل ان يجد نفسه، ربما وجد الآخرين، عسى أن يؤثر فيهم، ويمنحهم ما لا يكون باعثا على اليأس، والتلويح بالتفاؤل لكن ليس الكاذب. طوال زمن، شقّ على الكاتب السوري إدراك الواقع، كان أكبر وأقسى مما يستطيع فهمه، ما أظهر عجزه، فالقلم لا جدوى منه أمام البندقية، ولم يكن جهد الكاتب سوى العثور على الحقائق، ما يساعده على فهم ما أشكل عليه، كأنما كان في أمان، وفقده فجأة، لكنه كان أمانًا زائفًا.
حدة الملاحظة مطلوبة، اما العناية بالتفاصيل فلأن ما يحدث يتفتت ويتبعثر، وربما في تجميعه محاولة جادة لتشكيل صورة تُعين على إدراكه، بعدما انفتح الواقع على ما انقلب رأسا على عقب، والتعرف على حقيقة كان معتمًا عليها. تحت تأثير النظام الشمولي، كان المجتمع متصدعًا طوال عقود، جاءت الثورة لينكشف.
من جانب اخر، لا يحتاج الكاتب لاستيلاد الرعب، ما دام الرعب نفسه أصبح في حياتنا عاديًا ومألوفًا.
العزلة والبشر
س: هل يحتاج الكاتب للعزلة والابتعاد عن ضجيج الحياة، ليستبطن ذاته، ويعيد اكتشاف العالم من خلالها أم يحتاج للتلاحم مع الناس والتماهي معهم؟ بمعنى، هل يجد فواز حداد ضالته ومادته الروائية في العزلة أم في الانصهار مع الحياة من حوله؟
– لا بديل عن العزلة، ولا بديل عن البشر، كلاهما يتقاسمان الكاتب، وتتشكل الكتابة منهما، تمنحه الحياة المادة التي سيعمل عليها، ولا تكتمل عملية الكتابة إلا في العزلة. عمليتان لا تنفصلان عن بعضهما بعضًا.
إن التلاحم مع الناس يعني أن يعيش أزماتهم، إن مشاكلهم واشكالاتهم هي في النهاية مشاكله وإشكالاته، تعنيه مثلما تعنيهم، وفي الارتداد إلى العزلة فسحة ضرورية للارتداد إلى النفس. من خلالها يتفحص ذاته والآخر، ويعيد تقييم تجاربه في حياة لا يمكن ان يكون بعيدًا عنها، لكن على ألا تستغرقه كلية، كي تصبح الكتابة تأملاً فيها، واختراقها في العمق، والتعبير عما تثيره معمعة الظروف والبشر.
موقف من الديكاتورية
س: هل تمثّل رواية” السوريون الأعداء تحوّلاً في مشروع فواز حداد الروائي؟
– لا أعتقد انها شكلت تحولًا في مشروعي الكتابي، بقدر ما كانت استمراراً له، لكنها شكلت مرحلة أخرى في حال قسّمنا مشروعي إلى مراحل، فهذه وما تبعها استهلكت حتى الآن خمس روايات، والسادسة على الطريق، إنها عن الزمن الحالي، زمن السوريين في الثورة والحرب من عدة زوايا، التاريخ والمجتمع، بنية النظام السوري الشمولي الرثة، محاولة تحليله وما تميزت به بهذا الانفجار الهائل، لم يعد كل شيء كما كان عليه، زمن انطوى على تحولات الحرب من أهلية وطائفية، إلى إقليمية وتدخلات دولية… إنها الكتابة عن الواقع الذي نعيشه، هذا الذي يجري أمامنا وما زال. لم أنتظر حتى ينتهي لأكتب عنه، فأنا لست مؤرخًا ولا مجرد شاهد عيان، وما جعلني لا أتردد في مقاربته، فهو انني كاتب لدي موقف من الدكتاتورية، لست محايداً، وفي الوقت نفسه غير منحاز، أمنح للأطراف حرية التعبير عن توجهاتها. الفارق في هذه الأعمال هو الكتابة عن أوضاع في طور التشكل والانفراط، وربما الانهيار. أكتب عن أحوال مضطربة وغير مستقرة، تبدو حتى بعد مضي ما يزيد على عقد، لا يلوح لها نهاية ولا حل، فالبلد في حالة فوضى سينتج عنها بالضرورة تحول تاريخي. في الربيع العربي، شهدت سورية أعظم حدث في تاريخها الحديث بعد الاستقلال، وموعودة بالاستقلال الثاني، إذا كان الأول من الاستعمار، فالثاني من العسكر.
الكتابة عن هذا النظام الذي استمر نحو نصف قرن، تمليها ضرورة تحطيم تكريس مهزلة أبديته، لكننا لم ننج بعد، ما زلنا عالقين في سديم متاهة مشينة من الاحتلالات والتمزقات. الأمر الجيد، ثمة تحول متوقع في الكتابة، من قبل كانت تعاني من واقع زائف، بينما نحن اليوم في صلب واقع حقيقي.
الماضي المتصل بالحاضر
س: أنت الروائي الحداثي المعروف بأسلوبه الفريد في الكتابة، كيف استطعت التماشي مع هذا الاهتمام بالتاريخ ومسائل الحاضر؟
– هذا السؤال يعيدني إلى مفهومي للرواية في اطارها العام، اهتمامي في التاريخ نابع من ادراكي لأهمية الزمن في الرواية، كما ان الواقع يفرض ثقله. أنا كاتب معاصر، حتى عندما أعود إلى التاريخ لا يغيب عني انه الماضي المتصل بالحاضر، هناك دائما هذا الخيط، وربما النفق، أو الأرضية الجامعة، ما يحيل إلى الأواصر بينهما، وإلينا نحن.
هذا الوعي بالمشهدية الروائية، لا يعني فرض أسلوب محدد، وإنما التشبث بحرية الخيال في فضاء لا يتحدد بالآن فقط، أو التوهان في حيز ضيق، بل في زحام ومن دون حدود، وهو ما يرغب فيه الروائي، الإبحار في العالم.
الروايات المترجمة ضللت القارئ
س: ثمة تساؤل يتكرر عن سبب عدم وجود قرّاء للرواية العربيّة بالأعداد التي نتمنّى. لماذا؟
– أعتقد أن الاسراف بالدعاية للروايات المترجمة ضللت القراء، وصدقوا كل ما يكتب عنها من مديح يخضع لسياسات الترويج، قد نقرأ عشرين رواية مترجمة لترضينا واحدة فقط، هذا إذا كنا قراء جيدين. أما عن عدم وجود قراء للرواية العربية، فهو ليس تقصيراً من القارئ، وإنما في أن ذائقته تتلاعب بها الدعاية. إن قدرة القارئ على إدراك ما يحدد جودة الرواية تصنع سويتها، لا النقاد ولا الصحافة، كلاهما يسوقان ما يشبه الأكاذيب، ولا استثني لجان التحكيم ولا نقاد كباراً، هؤلاء لا يعرفون حتى الآن كيف يقرأون رواية، التنظير شيء وقراءة رواية شيء آخر. كيف يحكم الناقد على رواية خارجة عن تصوراته؟
هذا عدا ما أساءت للرواية جائزة البوكر أكثر من غيرها، فالدعاية المفرطة جعلت القراء يكتفون بروايات القائمة القصيرة، وكان فيها الكفاية، لكنهم لا يعرفون كيف وقع الاختيار عليها، تلعب فيها الكثير من العلاقات والضغوط والسياسة… لكن ليس جودة الرواية، إلا مصادفة، ليس قبل ان تستوفي شرطًا ما.
لهذا نقرأ عن انتقادات للرواية العربية في وسائل التواصل لقراء لا يقرأون، وانما مغرمون بتسخيفها لمجرد اعتقادهم أن الروايات المترجمة هي الأفضل لمجرد أنها ترجمت، بموجب افتراض حيازتها على العالمية.
الجمال والقبح
س: هل المطلوب من الروائي أن يكون صاحب أيديولوجية، وهمّ فكري وفلسفي، وهل الاهتمام بالقضايا الكبرى يصنع أدبا كبيرا؟
– ليس مطلوبا من الروائي سوى كتابة رواية جيدة، سواء كان صاحب أيديولوجية أو لم يكن، يحمل هموم فكرية او فارغ الوفاض منها، ولا يشترط ابدًا الاهتمام بالقضايا الكبرى او الصغرى… إذا أدرك انه حر تمامًا، فلا مشكلة إن تأدلج أو تفلسف أو تصدى لأية قضية… ما أحبذه فعلا إحساس الكاتب بإنسانيته، وأن يكون له قلب يتأثر في الجمال والقبح، الشر والخير، وأن يفكر بالحقيقة.
لم يعد هناك أيديولوجيات
س: هل يمكن للكاتب أن يكون محايدا حتّى وهو يجعل من الفنّية مدار اهتمامه؟
– إذا جعل الكاتب من الفنية مدار اهتمامه فقط، فسوف يكتب عن لاشيء، أولاً يجب أن يعرف عن ماذا يكتب وما دافعه للكتابة، هل يستحق؟ هذا ما يجعله يكرس ربما عمره له، بعدها يأتي الفن. لا تظن أن رواية عظيمة أو جميلة ستولد بلا قدر من الفن يحفظها من الضياع.
س: ألا يكون الكاتب وهو يختار أسلوب كتابة ما دون غيره، بصدد اختيار أيديولوجيا ما؟
– لم يعد هناك أيديولوجيات جاهزة كي يستعين بها الكاتب، لكن في داخل كل منا أيديولوجية، وكلما كانت منفتحة على العالم والحياة والبشر، كان صاحب رؤية لا تحبطها إرغامات الواقع، ولا حاجة لتوسل الدعاية.
الكاتب والتساؤلات
س: هل تسعى الرواية الى طرح الاسئلة أم محاولة الإجابة عنها؟
– هذه من قبيل المقولات الشائعة التي لا تملك حجة، وضد الرواية، فالروائي يطرح أكثر من سؤال على مدار الرواية، ربما احتواها سؤال كبير، قد لا يجيب عنها، فهو غير مكلف بالجواب. إن ما دفع الكاتب لكتابة روايته هو هذه التساؤلات، وقد يغامر بالجواب، ولا يخفيه. على كل حال، منطوق الرواية العام لا يخلو من محاولة، ولو كان للإيهام بجواب، الروائي مثلما هو قادر على طرح الأسئلة، قد لا يقتصر عليها، ربما حاول، أو… ما يدرينا ما الذي سيفعله، لذلك يتعيش الكثير من النقاد على تكهن ما قصده كافكا مثلا في رواياته وقصصه.
س: بمعنى هل الرواية فنّ تثبيت الفوضى؟
– إذا كنت تقصد بتثبيت الفوضى، عدم المساهمة بإيجاد حلول، وأن طرح الأسئلة إثارة للفوضى، فإن الجواب يدل على العجز، والسؤال أكثر جدوى، لكن متى كانت السلطة تستمع للروائيين أو حتى للمفكرين، انهم تحت الرقابة، يلاحقون ويسجنون، سواء سألوا أو أجابوا.
مساهمات لا يستهان بها
س: كيف تقرأ موقف المثقفين من الثورة السورية؟
– فلنختصر الجواب، شارك الكثير من المثقفين بالثورة وقدموا مساهمات لا يستهان بها، هناك من غادر البلد، أو اعتقل ومضى عليه في السجون ما يزيد عن عشر سنوات. أغلبهم لا يعرف مصيرهم، لقد قدموا أرواحهم فعلاً، النظام لم يرحمهم. وهناك من قدموا أسوأ مثال على المثقف الانتهازي تحت زعم الحياد، لم يخونوا ما تاجروا به من مبادئ فقط، وانما انتفعوا وسوقوا للأكاذيب، وكانوا على صلة طيبة بالأجهزة الأمنية، وتطوعوا لكتابة سرديات ترضي النظام.
-
المصدر :
- العربي القديم