بكل قسوته، وبدون مواربة أو تقية، ينقل الكاتب والروائي فواز حداد واقع السوريين، في حرص منه لحفظ حقوقهم وتوثيق تلك الآلام والمآسي التي مروا بها، وبمواكبة الثورة السورية يقف حداد إلى جانب الضحية ليشير بوضوح عميق إلى بنية النظام وماهية تكوينه وتفكيره، وليصور برواياته التغيرات التي طرأت على المجتمع السوري بكل جوانبه وعلى كل شرائحه بجرأة لافتة اقتحم فيها الكثير من المحرمات التي قلما تناولها الكتاب السوريين.�ويرى كاتب السوريون الأعداء أن الجريمة واضحة في الزمان والمكان ولذا فإن التمويه أو التورية هي خطأ كبير، وإن كان البحث في أصول الجريمة سابقا مطلوبا فإن تجاهله الأن بات هروباً من مواجهة واقع يجري التلاعب به، ويجب فضحه بواسطة الرواية وغيرها.
عن الثورة والرواية ومستقبلها كان لزيتون الحوار التالي معه:
– إلى أين يتطلع فواز حداد أن يصل، ماذا يريد أن يقول في أخر المطاف، وهل تكفي حياة واحدة لكي يقول ما يريد؟
أتطلع إلى أن أشهد عودة المهجرين واللاجئين إلى بيوتهم، وأن يعم شعبي الأمان والسلام، أعرف أنه لن يتحقق من دون الأمل بأن تأخذ العدالة مجراها. بالنسبة إليّ، البقاء على قيد الكتابة.�ما الذي أريد قوله في آخر المطاف؟ لم أصل بعد إلى آخر المطاف، وربما ليس لهذا المطاف من نهاية منظورة سوى الانتقال من مرحلة إلى مرحلة، أتمنى ألا تكون القادمة أسوأ من سابقتها. حتى الآن حققت الكارثة السورية تراجعات مؤلمة من دون تقدم نحو أفق مفتوح على متغيرات حقيقية، نحن في وضع المراوحة، فالكبار في مرحلة المساومة.�طبعا، لا تكفي حياة واحدة لقول ما نريد، ولا تكفي أكثر من حياة لنتعلم ما يساعدنا على عيش واحدة منها، ربما لأنها تمتلئ بالغث والثمين، أحيانا يصعب التمييز بينهما، فالسم يدس في الدسم. وما نتناوله مسموم، وسائل الإعلام تقود عمليات تضليلنا.�أقسى ما وصلنا إليه، أننا شعب يعيش مأساة أكبر منه، فعلياً لا أحد ساعدنا، والآن حتى لو أراد أحد مساعدتنا، فلن يستطيع. وحدنا نحن السوريين بوسعنا إنقاذ بلدنا، لكنه الأصعب، شعبنا ممزق بالضغائن والأحقاد.
– كم يحتاج الروائي الحريص على أداء أمانته التاريخية إلى القسوة والتشريح وارتكاب الجرائم على الورق حتى يمكنه أن يصور الجريمة كما حدثت، هل يكتفي بدور الشاهد والراوي أم يضطر إلى أخذ دور المجرم؟
الروائي ليس مخيراً في انتقاء الأدوار التي يكتب عنها. في الحقيقة، يتعرف إلى شخصياته خلال الكتابة، وربما إلى نفسه أيضاً. ويدرك أن ما كان يعرفه عنها لا أكثر من تصور غامض، وملامح باهتة، وقد تنقلب ضده، ولن ينفعه الحذر منها.�إذا كان الكاتب هو الراوي أو الشاهد، فلا مفر من أن يكون المجرم والضحية. ومثلما القسوة متوافرة في الحياة، لا يصح حجبها عن الرواية، فالرواية ليست الورق، ولا تدور فوقه فقط، إنها الواقع، أو ما يشبهه، ومكثفاً. ليس حرصاً على الأمانة التاريخية، وانما دفاعاً عن الإنسان والحرية والعدالة، هذا بالدرجة الأولى. إنها حقوق لا يجب أن يغفل عنها الكاتب.
– أليس من الممكن أن تكون رواياتك التي كتبت في زمن الثورة قد ظلمت نتيجة للشتات الذي يعيشه السوريين وتراجع القراءة، أم أنها جاءت في زمنها الحقيقي متسقة مع الواقع الذي سيوصلها لقارئها؟
الشتات كان له تأثير، لكن لنفترض أننا لم نكن في حالة شتات، فالروايات المكتوبة عن الثورة ستمنع من الدخول إلى سورية، مثلما كانت تمنع من قبل على مجرد التلميح إلى الأوضاع المأساوية للناس، وما يصيبهم من قمع. على كل حال وفّر الانترنت مواقع أسهمت بتنزيل نسخ الروايات الكترونيا بلا مقابل، مع ما فيها من ضرر مادي لدار النشر وللكاتب، لكنها حققت انتشاراً واسعاً وجيدا للكاتب والكتاب، وفي هذا مكسب كبير.�أما من ناحية تراجع القراءة، فأظن أننا نشهد تقدماً، فالروايات المترجمة تشهد إقبالاً ملموساً. كما أن الروايات غير المترجمة ارتفع منسوب الإقبال عليها، خاصة تلك التي يهم القراء الاطلاع عليها لمساسها بالواقع الذي يعيشونه، أو لمجرد حصولها على جوائز.
– من الملاحظ ثنائية التاريخ والجغرافيا في نصوصك، دمشق والانقلابات، الثورة ومجازر حماه وتدمر، هل هو تلازم لإثبات قضية محقة؟ هل هو دليل تاريخية الجريمة في سوريا، أم هو وثيقة لحفظ حقوق شعب تعرض وما يزال للظلم.
إن الربط بين التاريخ والجغرافيا، خاصة في أحداث تهمنا، لها ثقل تاريخي وذات تأثير ضروري جدا، فأنا لا أكتب عن بلد خيالي، ولا أتوهم الأحداث، أكتب عن بلد بالذات وعن أحداث جرت فيه، وضحايا لا يصح استعارة غيرهم، ما دام هذا البلد موجود على الخارطة، والحدث متوضع في حياتنا التي سرعان ما قد يصبح مفصلاً في التاريخ العام. فالتحايل عليه والترميز والتأويل خطأ كبير، لا سيما أن تداعيات ما يجري ومفاعيله تجري على الأرض تحت أبصارنا. الواقع جزء لا يتجزأ منه، فلماذا نتبرع بالتمويه عليه. هذا الجانب يجب التركيز عليه، وإذا كنا نزيح هذا الالتباس السطحي، فلأن هناك ما هو أعمق نريد التوغل فيه، لا سيما وأن هذه العقبة باتت شكلية، ومعوقة في الكتابة. ففي سورية في نصف القرن الماضي، كان هذا مطلوبا، لكن الآن بات هروباً من مواجهة واقع يجري التلاعب به، ويجب فضحه بواسطة الرواية وغيرها.
– هل تعتمد في كتابتك على القارئ الذكي القادر على التقاط الدلالات وما خفي بين الكلمات، إلى أي حد يتحمل الكاتب مسؤولية دفع القارئ إلى الاستنتاج؟
ليس الأمر القارئ الذكي أو القارئ العادي. أتصور أن للعمل الأدبي طبقات، بوسع القارئ التوقف عند سطحه، أو الغوص فيه، وكلاهما يقدمان شيئا ما للقارئ، وذلك حسب رغبته واهتمامه. وربما يقع على الكتاب مسؤولية جذب القارئ إلى عوالمه، هناك كتب لا يمكن المضي فيها أكثر من صفحات معدودات، أو نقرأها مضطرين، لما دار حولها من أقاويل، وهي دعايات تنشرها الصحافة الثقافية، بسبب علاقات خاصة.�صحيح أن الروائي يكتب للقراء، لكنه ليس ملزماً بمراعاة أمزجتهم، ومثلما قد يمتعهم، فربما يقلقهم ويؤرقهم.
– في تناولك للمحرمات الثلاث، هل تهدف إلى استدعاء الحرية في الفكر لدى القارئ، أم طرح الواقع كما هو دونما اكتراث لمحرمات المجتمع؟
في كتاباتي أنحو إلى طرح الواقع، من دون التفات للممنوعات، محرمات المجتمع كثيرة، ومن الطبيعي الاصطدام بها. وفي أسلوب طرحها ما يدفع القارئ الى التفكير فيها ومناقشتها.�هناك جوانب تغيب عنا، وما تتيحه الرواية لا يستهان به في التركيز عليها والاطلاع عليها، بزجها في مشهديات متحركة، قد تكون متكاملة، باستعراض أكثر من جانب لها، ما يساعد القارئ ربما على إعادة النظر فيها. الروائي ليس مصلحا اجتماعيا، لا سيما وهو يدرك أن ما هو ممنوع اليوم مسموح به في الغد، والعكس صحيح، لذلك في الذهاب إلى الجوهر ما يوفر لعب دور الناصح الذي قد ينقلب إلى ضده.
– صدرت حديثا روايتك “الشاعر وجامع الهوامش” ما الذي ينتظر قراءك فيها؟�الرواية متشعبة ومكثفة في آن، تدور أحداثها خلال وقائع سنوات الثورة والحرب. كتبت فيها عن المثقف المضطر إلى التعامل مع النظام، والمثقف الذي يتعامل مع النظام ويحاول العمل لحسابه، كما تطرقت إلى الدين والتطرف والطائفية، عن مظاهر إجرام النظام في فلسفة التعفيش، عن عقلية التي تدار فيها الدولة وغيرها، موضوعات متصلة ببعضها، الواحد يقود إلى الآخر، الثورة أثارت إشكالات عديدة وكثيرة يصعب حصرها، أهمها الانكشاف الكامل لدولة شمولية، أيديولوجيتها القمع، ودفاعاتها مجرد ادعاءات.
– كيف يرى الروائي السوري فواز حداد مستقبل الأدب بشكل عام، ومستقبل الرواية بشكل خاص في سوريا؟
أعتقد أن مستقبل الأدب في العالم، وأقصد المستقبل القريب، يوحي بالقليل من الانجازات، المشهد الروائي لا يقدم جديدا، أما في منطقتنا فأعتقد أنه مزدهر من ناحية الكم، هذا الطوفان من الروايات سيخلف شيئا ما، قد يكون جيداً. فالربيع العربي وأنا مصر على هذه التسمية، سينعكس على الأدب رغم خذلان الواقع، كان أشبه بحركة تنوير واسعة النطاق، يكفي أنه خرب التركيبة القديمة، ولو أنها لم تنهار. كشف الاتجاهات الأصولية، تطرفها وانحرافاتها القاتلة، وانسداد آفاقها المشين، خواء الاتجاهات اليسارية وارتداداتها إلى ما قبل اليسار، وما طرأ عليها من التشبث بالأنظمة الفاسدة.�الرواية في سورية، ستشهد صراعا بدأ مؤخراً، بين مثقفي النظام الذين يكتبون روايات تصور ما حدث في سورية على أنه مؤامرة كونية، أو أنه حرب النظام على الإرهاب فقط، روائيو النظام اعتمدوا الخبث وتظاهروا أنهم إنسانيون فوق المخابرات والمعارضة والإرهاب، يحلقون في العالي، فوق الضحايا أيضاً، وتاجروا ببقائهم في الداخل، ومواجهة قذائف الهاون على خطوط التماس، بينما كانوا يسرحون بين المقاهي، والثرثرة حول مآدب الأدب.�نعم، نحن مدعوون لكتابة روايتنا.