أحيانا، يصعب فهم تركيبة النظام السوري، أو تصنيفه بين الأنظمة السياسية. بالطبع ليس ديمقراطياً، لكنه ليس دكتاتورياً نموذجياً، من جهة يقصر عنه بأيديولوجيا مهلهلة، ومن جهة أخرى يتفوق عليه بترهاته، ويشطح عنه إلى نظام لا يمكن التكهن بطبيعته بدقة، وربما في النظر إلى هذه التركيية المستحدثة من النظام السياسي، ضرورة تسمح بتفهم، نظام غير مفهوم ليس من فرط تعقيده، بل من تفاهته.

منذ عقود في بداية الحركة التصحيحية، كان أقرب إلى الوضوح، وكان المأمول أن يصبح واضحاً مع الوقت، لكن مع اعتياده على إطلاق قنابل دخانية تخفي حقيقته، ضلل الكثيرين ومنها أنظمة إقليمية ومنظمات مقاومة، مروجًا لشعارات اشتراكية وقومية ووحدوية، مع العمل على عدم استعداء غالبية الشيوعيين والناصريين، بعدما تمكن من زجهم في الجبهة التقدمية الوطنية بحيث أبقاهم حبيسي جدرانها، أما التجار فاسترضاهم ببعض المنافع، وبالنسبة للمشايخ، أعلن إسلامه دحضاً للشائعات. كل هذا أدى إلى التغاضي والصفح عن عسكري جاء إلى الحكم إثر عدة انقلابات، في مرحلة بدت ألا نجاة للبلد من جيل من العسكريين، لم يعد لهم من همة وعزم سوى التفكير باجتراح انقلاب يستعيد فلسطين من قبضة الصهاينة، كان هذا المبرر الوحيد أمام الشعب. ولم يكن اهتمامهم بفلسطين سوى للوصول إلى السلطة، كانت القارب الأفضل للاستحواذ عليها. خاصة أن حكم البلاد بدا مغامرة سهلة.

ضلل الكثيرين ومنها أنظمة إقليمية ومنظمات مقاومة، مروجًا لشعارات اشتراكية وقومية ووحدوية

كان الشعب عندما جرى الاستيلاء على الدولة وحتى بعد سنوات قليلة، حسب الأدلجة الحزبية، يتألف من عمال وفلاحين وحرفيين ومثقفين ثوريين وبورجوازية وطنية، وبرجوازية مستغِلة مطرودة ومغضوب عليها، واتحاد نسائي مزمع تأسيسه، وجيش عقائدي لم تكتمل عقائديته بعد، سوف يعمل النظام حثيثا على جعله عقائدياً، وذلك بتجفيفه من الضباط غير الموالين والمشكوك في وطنيتهم أي من مناطق معينة، أو اتجاهات مشبوهة، توصف بأنها عميلة ومتآمرة، وذلك لتحويل الجيش الى كتلة متراصة متجانسة انضباطية في إيمانها بأن الدولة دولتها، ليس لها من عمل سوى حماية القصر الجمهوري.

بالعودة إلى الشعب، سوف يتقزم إلى فقراء وطبقة متوسطة آخذة بالانكماش، ومثقفين منبوذين، تجار صغار، ومساجين، وملاحقين، ومغضوب عليهم تحت رقابة الأجهزة الأمنية، وإرهابيين إسلاميين في السجون بانتظار المحاكمة والمشنقة.. أما لماذا؟ فلأن المؤامرت تستهدف الوطن.

كان العمل على قولبة الشعب، حاجة حكومية، ليس له ليحصل على الأمان سوى الاهتمام بتأمين طعامه وشرابه، مع فرص للتسلية بالمسلسلات التلفزيونية، هذه هي الكتلة التي ستكون شاءت أو أبت، التي ستبني سوريا الحديثة. طبعا لن ينسب الفضل لصمتها، بل لضجيج الشعارات.

أما الذين سيبنون سوريا الحديثة فعلا، فهم الرئاسة، أي العائلة الرئاسية، والحلقة الضيقة، والمخابرات، وضباط كبار مقربون، ورجال أعمال، ومسؤولون كبار، ومسؤولون أجراء، ومحللون سياسيون، ومثقفون انتهازيون، وطاقم من الفنانين: مطربين ومخرجين وممثلين وممثلات يعملون لخدمة النظام سواء بعلم أو من دون علم. عموما ليس لديهم اعتراضات ولا احتجاجات، بل لديهم استحسان وتبجيل للإجراءات الرئاسية، ودائما ما يُكافؤون بالاستحسان على جهودهم الكوميدية.

كان العمل على قولبة الشعب، حاجة حكومية، ليس له ليحصل على الأمان سوى الاهتمام بتأمين طعامه وشرابه، مع فرص للتسلية بالمسلسلات التلفزيونية

ما يسترعي الاهتمام، ليس أن الرئيس لا يجوز ولا يحق توجيه أي انتقاد له، فهذا أمر مفروغ منه، وإنما تضخم العائلة الرئاسية، فمع الوقت أصبحت طبقة بحد ذاتها، مطلقة اليدين، بسبب صلة القربى، تمتعت بكافة الاستثناءات، استغلوا البعد عن العاصمة وأقاموا جمهوريات صغيرة وممالك وإقطاعيات وموانئ مستقلة وحركة استيراد ممنوعات وتصدير مخدرات.. متحررة من كابوس الدولة من جمارك وضرائب وتموين ومالية وشرطة سير وقضاء ومحاكم، كانت موجودة، لكنها مغلولة الأيدي.

الجديد الذي طرأ، قيام العائلة الرئاسية في الأطراف بابتكار الشبيحة، كانوا الجيش الخفي للإقطاعيات وهم مجرمون ولصوص يبطشون بالناس وينفذون الأعمال القذرة جدا، خاصة بعد قيام المظاهرات والانتفاضة. أوكل إليهم القيام بالمجازر والنهب، أي حماية النظام حسب زعمه من الأعداء الإرهابيين.

بذلك لم يعد صعبا فهم تركيبة النظام، إنه نظام متفرد، يمثل الانحطاط السياسي، عندما يبلغ الدرك الأسفل، من ناحية أنه حقق نجاحا مذهلا في تحويل طبقات من المسؤولين، وضباط الجيش والمخابرات وكل من يحف بالسلطة إلى لصوص، بعدما ثبتت استحالة توافر قدر قليل من النزاهة في هذه السلسلة من المتنفذين.

يسهل انتقاد النظام، فهو مكشوف تماما، خاصة بعدما أمضى أكثر من نصف قرن في ارتكاب مختلف أنواع الجرائم، دونما مساءلة، باعتبار البلد وما عليها من أملاكه الخاصة

يسهل انتقاد النظام، فهو مكشوف تماما، خاصة بعدما أمضى أكثر من نصف قرن في ارتكاب مختلف أنواع الجرائم، دونما مساءلة، باعتبار البلد وما عليها من أملاكه الخاصة، وإن كان في العقد الأخير، قد أحرج الكثير من الدول، فلاحت نوايا وربما جهود في محاسبته، لكنها لن تطول سوى عاثري الحظ من أعوانه، مع هذا بات هناك رقيب وحسيب، أما إلى متى؟ فلا ندري. المثير أنه لا يهتم، بل ماض من دون تراجع في تأبيد جرائمه، أضاف إليها جريمة لا يستهان بها وهي تجويع الشعب، أما كيف تجرأ؟ فلا نذيع سراً إذ نقول إنه يحظى بحماية دولية. أما السر فهو ما يجب التفكير فيه. وفي الواقع ليس سراً وحيداً، بل مجموعة أسرار، تجعل من الاستغناء عنه تورطا بنظام ديمقراطي لا يفيد سوى الشعب، أما وجوده فيعود بالفائدة على الكثير من الدول، لكن في حال استطاع الشعب إدراك أنه يستطيع أن يضع الدول أمام الأمر الواقع، وهو الرفض الشامل لهذا النظام، ولقد حان وقته، فسوف يظفر بنظام ديمقراطي، لكن ليس قبل التوحد، وحدة السوريين هي الأولوية