الرواية الجيدة هي التي تخرج منها بغير النفس الذي دخلت فيه. الأروع حين تغيرك نحو الأحسن. رواية (فواز حداد) التي عكفت عليها في برد مونتريال لفترة أسبوعين خرجت منها في حالة صدمة! نفس الشعور استولى علي في قراءة كتاب (الإنسان) يبحث عن المعنى لعالم النفس (فيكتور فرانكل) في روايته من معتقلات آوسشفيتس النازية (Auschwitz). خسر فيها الرجل زوجته ومن أخبره حمامة حلقت فقعدت أمامه تتأمله. هل كانت تحمل روح زوجته يتساءل؟
في قصة السوريين الأعداء نحن أمام شاب فاشل، ينخرط في النظام الأمني، ويقتل بيد باردة ثلاث أجيال دفعة واحدة؛ الجدين والزوجة والأطفال، أما الطبيب (عدنان راجي) فيرسله إلى فرق الإعدام بدون ذنب جناه. يتسلل النقيب سليمان إلى أحشاء جهاز الحكم فيتسلق السلم بانتهازية لفوق بدءً من الوشاية بخاله المختبيء عنده في حلب؛ لينتهي موتا في السجن.
يحصل أمر غير متوقع للطبيب (الراجي) فينجو من الإعدام في ساحة الرمي؛ بسبب مساعد في الجيش، كان يأتيه بعائلته للعلاج في حماة. نجا الطبيب من فرق الإعدام إلى ماهو أفظع ليرسو مصيره في سجن تدمر الرهيب لمدة ثلاثين عاما.
أدب السجون عامر في السوق العربية فابن جلون المغربي كتب عن تزمامارت في روايته تلك العتمة الباهرة، والعراقي الجادرجي كتب عن جدار بين ظلمتين، والمصري خفاجة عن سجن ليمان طرة. المميز في سجن تدمر هو تفنن في التنكيل غير مفهوم، بسادية سريالية، وقسوة يتجمد العقل عندها في سؤال سرمدي لماذا ماهو الدافع ماهو التفسير هل هو مجرد الحقد الأسود؟ لاجواب؟
صاحبنا النقيب يصعد سلم المجد في ظل النظام الأمني الذي يتضخم بدون توقف. أنا شخصيا أذكر من مدينة القامشلي أن فرع المخابرات كان بناء صغيرا مختفيا، وحين رجعت بعد 17 سنة ذهلت أمام مدينة مخابرات كاملة.
في كتاب (نهاية التاريخ) لفوكوياما يذكر كيف أن جهاز ستالين تضخم إلى درجة من التجسس والتخلص من المعارضين أن زوجة (مولوتوف) الرجل الثاني في ماكينة الحكم رسا مصيرها في المعتقلات. يعلق فرانسيس فوكوياما: كان لابد من تفكيك هذا الجهاز السرطاني قبل أن يقضي على الجسد كله كما يفعل السرطان في العادة.
(بيريا) الذي قاد الجهاز كان صعلوكا أمام سيده ستالين، ولكنه قتل بيد باردة أهم رجالات البلاشفة الذي فجروا ثورة أكتوبر كما حصل مع (بوخارين) بعد محاكمة صورية والرجل يعتبر من العمود الفقري للحركة البلشفية.
نفس الشيء كانت تطمح له زوجة (ماوتسي دونج) بعد وفاة زوجها أن تكون الإمبراطورة، حتى كتّفها الرفاق في مؤامرة مزعومة سموها عصابة الأربعة.
كما نرى الصراع على السلطة بئيس وخطير جدا.
المهندس كما كان يسميه مهندس النظام الأمني الأسد الأب، كان بارعا في اختراع الصور الشاهقة والأنصاب والأزلام للقائد الأبدي. لقد صارحه بدون مواربة أن يعبد من دون الله فيكون هو الله الفعلي! كما في كوريا الشمالية. اعترض الأسد أنه في النهاية ميت وميتون؟ كان تعليل رجل المخابرات المتزلف أنها الحياة الأبدية لشخصيته التي لم عجز التاريخ عن إفراز مثيلاتها فهو الصمد الأحد في تاريخ السياسة.
تورط النقيب في كل القباحات الممكنة، ومكّن لعشيقته فرص التهريب والاغتناء الفاحش، وخافه الكثيرون عن علم أو جهل. أخيرا اجتمع بعدنان الطبيب الذي أرسله إلى فرق الموت فنجا وعاش في جحيم تدمر ثلاثة عقود، ليتأكد منه أهو هو من نجا؟ وكان من المفروض أن يكون من أموات مذبحة حماة.
استطاع الطبيب الراجي أن يتسلل لبيت ضابط الأمن في ليلة غير مقمرة وبيده مسدس. خارت قوى الضابط الأمني أمام الغدارة، ولكن الطبيب تركه! فما فائدة أن يقتل رجلا تعجز العدالة الأرضية أن تصل للعدل.
بعد موت الأب وصعود الابن الأسد حاول التسلل من جديد، ولكن سبقه شاب صغير يقوم بنفس دور التسلق الماراتوني الذي فعله هو قبل ثلاثين عاما.
وحين انفجرت الثورة في عام 2011م وتوجه الأسد الابن لمنصة الخطابة رتب الضابط سليمان مع آخر خطة اغتيال الابن فيما لو تراجع عن العلاج (الحموي) الذي أثبت جدواه بقتل الناس بدون تردد.
كان حظ الضابط سليمان المتسلق أن صاحبا له مشترك في المؤامرة كان يسجل كلماته على خفية من الأعين. تخلص منه الضابط ولكن المفاجأة كانت حين جاءه الضابط الصغير المتسلق بصوته وهو يروي الاغتيال! عرف أن مصيره حدد!.
قال له الضابط الصغير الجديد: أمامك المسدس الكاتم، أو سكاكين الشبيحة تعمل فيك بدون صوت فاختار؟
قصص الخونة والمتسلقين إلى سلم القوة ليسيئوا استخدامها هي قانون ينعكس على صاحبه في النهاية. فيجب أن نوقن أن الأنظمة الشمولية هي ضد الحياة، وأن تنين الأجهزة الأمنية لاتستطيع أن تخنق روح الإنسان أمام الثورة.
إنه كتاب يروي حقبة سوداء من التاريخ السوري، ولكن يجب أن نقرأه لأولادنا حتى لانعيد التجربة؛ فمن يغفل عن سنن الله فإن سنن الله لاتغفل عنه. والتاريخ هو مسرحية بين أذكياء خبثاء ومغفلين بسطاء لحين مجيء الوعي. ومن لايستفيد من تجارب التاريخ عليه أن يدفع الثمن مجددا مع الفوائد المركبة.
ماكتبته آنفا يذكرني أيضا بما كتبته عن النظام الجهنمي في سوريا بهذه العبارات: يفتح المواطن العربي عينيه على الحياة وهو في المعتقل. فقبل أن يأخذ الثانوية العامة يجب أن يحظى بزيارة فرع أمني ويتلقى كفاً أو كفين فهذا لحسن السلوك. ويموت المواطن وعمره تسعون عاماً يحمل على النعش وبحقه قرار أمني بعدم مغادرة الوطن. وفي مطارات الوطن أدراج شاهقة مثل الأهرامات غاصة بأسماء عشرات الآلاف من المطلوبين والممنوعين من السفر لدرجة القرابة ثلاثة ولأكثر من جهاز أمني. وبين المهد واللحد يجب أن يكون أي مواطن معتقلا مرة أو مرات. أو يعرف في جواره من اعتقل وأهين، أو سمع عمن اعتقل فكسرت عظامه وأسنانه فخرج يمشي على بطنه مثل الزواحف، أو من نام في أقبية المخابرات عشرين سنة فخرج أقرب للجنون، أو شدخ رأسه بحجر فمات في سجن صحراوي. أو من مات في غرف تعذيب الهولوكوست العربية أو قضى نحبه بالمخمصة بمرض كواشركور منتفخ البطن بنقص البروتين مثل الحامل في الشهر الثامن. أو صديق له رميت جثته أمام زوجته بعد أن جف مثل الحطبة فلم تعرفه إلا من شامة في وجنته. أو من أخذ شاباً لا أحد يعرف السبب بمن فيه المعتقل نفسه فلم ير أمه وأولاده إلا بعد ضغط منظمات حقوق الإنسان من الخارج وبعد ربع قرن من الزمن ولزيارة واحدة. أو من حشر في زنزانة ضيقة يضرب بالفلق كل يوم مرتين بالعشي والإشراق لفترة ستة أشهر محروم من الطعام إلا كسرة خبز في 24 ساعة فيتبرز مثل البعير بعرا. ومن تجرأ فزار من خرج من أفران الاعتقالات شبحاً وهن العظم منه واشتعل الرأس شيبا أحصي عددا وسجل في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. ووجدوا ما عملوا حاضرا في كل تحقيق بما فيه نوع الحليب الذي رضعه وهو في المهد صبيا هل كان سيميلاك أو سيريلاك؟ وليس هناك من مواطن إلا أو طلب للتحقيق ولو كانت عجوزا مقوسة الظهر تسعين درجة تمشي بعكاز، أو طفلاً لم يحسن النطق بعد. أو بنتاً ناهداً في عمر الورد وطهارة السحاب. فلعل العجوز مرتبطة بالاستخبارات العالمية. ويبقى الطفل ينطق بالحقيقة فهو أدعى لطلب الحضور ولو أصيب بالصدمة النفسية كل حياته. وتجر الفتاة إلى الفروع الأمنية لأن أخاها طلب الرزق في السويد، فلعله يتآمر على النظام من هناك. ولو كلف هذا أن تنظر للحياة بـتشاؤم بقية عمرها.
إنها روائع أمنية لسمفونيات الأجهزة الأمنية في العالم العربي. في وطن تحول إلى سجن كبير فيه الكل يعتقل الكل. والكل خائف من الكل. والكل خائف من الاعتقال، يراه عن اليمين والشمائل في الحقيقة والمنام. وكل بناية في الوطن يمكن أن تتحول إلى سفينة أمنية عامرة بالزوار في بطنها.
قبل أربعين عاماً كانت فروع الأمن محدودة العدد قليلة المجندين لا يزيد حجمها عن بناية صغيرة. واليوم نمت الفروع الأمنية بأشد من السرطان وأكبر من ديناصور لاحم وارتفع عددها أكثر من أبواب جهنم السبعة، للخارجي والداخلي والعسكري وأمن الدولة والأمن السياسي وفلسطين والحرس الجمهوري والقوى الجوية والأمن العام. وآخر من شكله أزواج. منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك.
هذا ما كان على السطح أما ما خفي فلا يعلمها إلا الله والراسخون في المخابرات. وأهم شيء هو استباب الأمن. ولو تحول الوطن إلى مقبرة يمشي فيها حارس واحد وحفار قبور وجثث تتوافد وقبور تبلع.
والمشكلة في هذه الأجهزة الأمنية أنها تشبه قبائل البدو بثلاث فوارق: فشيخ القبيلة الأمنية يلبس نظارة إيطالية ويزركش صدره بربطة عنق أمريكية وتحته سيارة مرسيدس ألمانية ويحمل في يده سلكاً كهربيا صينياً للضرب واللسع.
و(ثانياً) أن من يدخل في جوار شيخ القبيلة لا أمان له ولو كتب له الشيخ كتاب أمان. لأن مضارب القبيلة غير مرتبطة بالجغرافيا. وكل الوطن هو مضرب شيخ أي قبيلة. فقد يقع المواطن في قبضة شيخ هذيل مع أنه في أرض الدوسي. وشيخ أي قبيلة يمكن أن تطال يده مضارب كل القبائل في كل الوطن. وهو قانون ساري المفعول لكل شيوخ القبائل في كرم حاتمي على حساب مواطن مستباح عرضة للاعتقال في أي لحظة على يد أي فرد من أي قبيلة في أي مكان.
إنها تركيبة عبقرية كما نرى تدرس في الجامعات الكندية في قسم العلوم السياسية كنموذج فذ لعبقرية عربية في ضبط الشعوب. ويمكن لرئيس السحرة في أي ساعة من السحر أن يوقظ شيخ أي قبيلة للإجابة على ملف أي مواطن. ولا يدخل على الطاغية أكثر من جنرال فقد يتفق الثلاثة إذا جمعتهم الصدفة أن يعتقلوا الرئيس طالما كان السلاح هو الحكم.
والفارق (الثالث) أن هذه القبائل الأمنية في حالة حرب دائمة فلا تعرف الأشهر الحرم بل السبق الأمني، ولا حرمة كعبة وقبلة وبيت وشيخوخة، بل الكل يتنافس في اعتلاء ظهر مواطن لم يعد فيه مكان للركوب.