يمكن النظر إلى الدولة الشمولية الرثّة، على أنها صيغة متطورة، رغم انحطاطها، عن الدولة الشمولية المتعارف عليها، التي استعانت بالماركسية بعد تشويهها، ثم بتنقيحاتها اللينينية، الى أن أنتجت صيغتها المعروفة بالستالينية، ما سوّغ الإعدامات والقتل والنفي والمحاكمات المفبركة وتزوير الاعترافات، واصطفاء الموالين، وفرز التحريفيين والخونة والمنشقين، تحت جناح دكتاتورية مطلقة، كرست السلطة لفرد أوحد، بالاستناد إلى أيديولوجيا متحجرة، وعدة نظرية متلاعب بها، لكنها صلدة وقوية تتميز بنصوص جامدة لا ترحم، مرونتها في سهولة إرسال رفاق الدرب إلى المشانق، بذنوب يتوقع أنهم ارتكبوها، أو سترتكب، أو يفكرون بارتكابها.

اعتمدت الدولة الشمولية منذ نشأتها على استخدام القمع البوليسي بأشد أشكاله تطرفاً، واستقرت في طبعتها الرثة الأحدث، على نهجها القديم، مع إجراء تحديثات تتجلى بالنظام في سوريا، بارتفاع منسوب الخضوع، كآلية للخنوع، تشكل المنحى المضمون لاستمرارية النظام، فالستار الحديدي من الأجهزة الأمنية، كفيل بالضبط والغموض معًا، مستفيدة من حماية وفرتها إيران وذراعها حزب الله، و”فيتوات” روسيا والصين.

تبلغ الرثاثة بالدولة الشمولية في صيغتها الحديثة ذروتها في استبعاد التفكير النقدي، بحيث يمتنع على الشعب مناقشة، أو حتى الاطلاع على الأسباب الحقيقية لما يتخذ من سياسات وإجراءات، والافتقار إلى أيديولوجية ولو كانت مصطنعة، فلا نظريات أو تنظيرات، مع انحدار إلى السفسطة والهمجية، من دون أي محاولة لإخفاء الوجه السافر والبغيض للطغيان بصورته الفاقعة.

فمثلا في الحالة الكورية، وهي حالة نموذجية يعتبرها النظام في سوريا جديرة بأن تحتذى، يبلغ تقديس الرئيس حد الوله والعبادة. تتجسد بمشهد الفتيات يحطن بالإمبراطور الكوري الشاب، يذرفن الدموع من فرط انشداههن من رؤية الزعيم الحبيب. وفي مشهد آخر، يبدو المستمعون لخطاباته سواء من الطلبة والطالبات، أو من كبار ضباط الجيش، إلى كبار المسؤولين في الدولة، يجمعهم حال واحد من الإصغاء المتنبه مترافقًا بالحذر من شدة الرعب، يخشون أن تغافلهم سهوة، تحت تأثير الوقع الرتيب لصوت الرئيس، فيسارعون إلى التصفيق الهستيري، والتهليل بأصوات عالية، دلالة على اليقظة التامة.

في الحالة السورية، ثمة تقصير عن الحالة الكورية، فالعدة النظرية لا تعدو أكثر من هذا الضجيج الشعبوي المفرط، بالتفاهة، ما يوفر حاملا متقاعسًا لشعارات المقاومة بلا مقاومة، والممانعة بلا ممانعة. وإذا كان لا بد منهما، فيا ترى تقاوم من؟ وتمانع من؟ فالأيديولوجية الرديفة لا تزيد عن لا شيء، إلا إذا كان الفساد أيديولوجية، لذلك يكتسب الإيحاء بالمحبة العمياء للرئيس، شكلا تعويضيًا لغياب أي بديل لها. ويبدو حال مؤيدو النظام في سوريا، أفضل بالمقارنة مع الكوري، فهم يعرفون أنهم يكذبون، ويعرف النظام أنهم غير صادقين، فالتكاذب متبادل، هكذا تسير الأمور منذ عقود، ما أكسبها نوعا من الثبات المُرضي للطرفين، عززتها سنوات الحرب بالمزيد من النفاق والخوف.

كيف تستمر هذه الأنظمة، مع أنها مضادة لشروط بقائها؟ يشكل الجهاز الأمني القوي، إضافة إلى السلاح النووي حماية للنظام الكوري بالتواطؤ مع روسيا والصين . بينما النظام في سوريا، الذي شارف على السقوط، أنقذه الروس من الهاوية، باتخاذ موقف ينطلق أساساً من رفضهم للربيع العربي، وتصنيفه بأنه “ثورة ملونة” قد تُسقط العالم العربي في حضن الأمريكان، وإن كانت قد استبدلته فيما بعد بالخوف من الإرهابيين، لئلا تنتقل الميليشيات المسلحة الجهادية إلى الجمهوريات الإسلامية “حديقة روسيا الخلفية“، وتحريك حرب عصابات ضدّ حكامها الذين لا يقلون دكتاتورية وفسادًا عن الدكتاتوريات العربية. اعتبرت موسكو أنها استطاعت تحقيق انتصار بتدخلها في سوريا، وكسرت ما وصف بـ“سلسلة الثورات الملونة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا“، ووضعت حدّا لها.

تتحالف الأنظمة الدكتاتورية مع بعضها بعضا، وتتساند في تسويق قصة الإرهاب، التي كان لها يد في تصنيعها، إلى أن بدأ خطرها يهدد فعلا حكومات مترنحة تحت ضربات إرهاب يتفاقم تأثيره، مازال صالحاً لاستعماله حجة لبقاء الشموليات الفاسدة، أسهمت فيه الديمقراطيات الغربية بغض النظر عنه.

يستعد النظام في سوريا للاستمرار دونما متغيرات، ولا أن يقدم شيئًا لشعبه، ويبذل جهده لتنظيف سمعته من الفساد، بإقدامه على إجراءات توحي بمتغيرات، بإعلان العائلة الحاكمة عن تضررها منه، والعمل على محاسبة أثرياء الحرب، مع أن الأمر أن لصوصاً تقاضي لصوصاً، ولصوص تنهب لصوصا، وإحلال لصوص جدد، بدلاً عن لصوص أجبروا على التقاعد. وما يدعو إلى السخرية، أن رؤوس الفساد، لم يوفروا فاسدين من بطانتهم كانوا تحت حمايتهم، من الاتهام بالفساد، وكأن أيديهم نظيفة. في الحقيقة هذا الجهد، لا يعدو أكثر من ترشيد النهب باستثماره إلى حد تشريعه.

من جانب آخر، يعتقد النظام أن الحرب شارفت على الانتهاء، وفي سبيله إلى استعادة المناطق “المحتلة” بمساعدة روسيا المافياوية، وإيران المذهبية. ويعيد في الوقت نفسه تصنيع الخضوع اللامشروط، بحظر طرح أي تساؤل حتى من الموالين له. فالدلائل لا تبشر بسوريا موحدة، إزاء تصلب باقي المناطق، كذلك يستحيل استمرار سوريا كبقعة مظلمة ودولة رثة، بالتالي يعود شعار إسقاط النظام إلى المقدمة، ويكتسب الأولوية، لكن بجهد السوريين جميعًا. لقد حان الوقت، الذي أفلت مرارًا، قبل أن يمتد العمر بالنظام عقدًا مشؤومًا آخر.