يعتبر مشهد “درج الأوديسا” من كلاسيكيات المشاهد السينمائية، وهو المقطع الرابع من فيلم “المدرّعة بوتومكين” للمخرج الروسي سيرغي ايزنشتاين. اعتبر الفيلم واحداً من عشرة أفلام هزّت العالم، وأحد أهم مائة فيلم.
يصوّر المشهد جنود القيصر يتقدّمون بخطوات موزونة وإيقاع ثابت، كأنهم آلات من بواكير العصر الصناعي، يطلقون النار على حشد من البشر. بينما كتيبة من القوزاق تهاجمهم في الجانب السفلي من الدرج. يركز المخرج على امرأة عجوز، وطالبة، وصبي صغير مع أمه، وفتاة مراهقة، وأم تدفع عربة طفلها الرضيع، تقع صريعة على الأرض، بينما تتدحرج العربة إلى أسفل الدرج وسط حشد الهاربين. نرى جثث عشرات الضحايا ملوّثة بالدماء الحمراء، مع أن الفيلم بالأسود والأبيض، ونسمع صرخات الألم والرصاص تصمّ أسماعنا، مع أن الفيلم صامت.
” صدمت المذبحة جمهور المشاهدين بمستوى العنف غير المسبوق”
، حتى اعتقدوا من فرط ما بدت واقعية، أنها حقيقية. الصدمة البالغة كانت من نصيب الرقابة في العالم، تحت تأثير وصف الوزير الألماني جوزيف غوبلز: “فيلم رائع ليس له نظير في السينما.. أي شخص ليس لديه قناعة سياسية راسخة، يمكن أن يصبح بلشفياً بعد مشاهدة الفيلم”.
أن يأتي هذا التعليق من وزير الدعاية النازي يبدو مستغرباً، فقد بلغ العداء النازي للشيوعية حد إعدام أي شيوعي بلا محاكمة في ألمانيا، وقتل الناشطين الشيوعيين ميدانياً أثناء تقدّم الجيش الألماني في جميع الأراضي، التي اجتاحها في الحرب العالمية الثانية. لكن الدعاية هي الدعاية، ما دامت تبرّر العنف الثوري، فقد كان للنازية حزب يرفع راية الاشتراكية الوطنية، ولا توفر العنف على أنه ثوري. على كل حال رد عليه ايزنشتاين واصفاً “واقعية الاشتراكية الوطنية النازية” التي ادعاها غوبلز بأنها ليست حقيقية ولا واقعية.
أهمية الفيلم في قوته التعبيرية، بتوظيفه ما بدا تكثيفاً ثورياً لحدث الأوديسا بالصور المتصادمة المتلاحقة لاستثارة الاستجابة العاطفية للجمهور، باستخدام تقنية مونتاج السينمائي، كان ثورياً وطليعياً، ما أنعش آمال صنّاع السينما في إحداث تغيير في الفن السينمائي المتعثر والمراوح في مكانه. فكان أحد فتوحات السينما في مشوارها الطويل.
أما في عالم السياسة الذي يعجّ بالمفارقات، فقد كان الفيلم أحدها، لم يُمنع في ألمانيا النازية، لكنه مُنع في الاتحاد السوفييتي بلد المنشأ، وفي كل من الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا.
لا شك في أن الفيلم كان تصويراً لثورة أسقطت السلطة السياسية في روسيا، ما أزعج الرقباء في بلدان “العالم الحر”، مع أنه حرّ. البوليس الفرنسي أحرق كل نسخة وجدها للفيلم. في ولاية بنسلفانيا الأميركية تم منعه لأنه يعطي البحّارة الأميركيين خطة لكيفية قيادة تمرّد في الأسطول. في بريطانيا، كانت فترة المنع أطول من أي فيلم آخر في تاريخ الرقابة، لئلا يحرّض العمال على التمرّد، والتسبب في فتنة.
ظلّ الفيلم ممنوعاً حتى أفرج عنه عام 1954، في زمن بات عرض الأفلام الصامتة فيه من تاريخ السينما.
-
المصدر :
- العربي الجديد