ما بدا توافقاً قبل سنوات بين عائلتي الأسد ومخلوف بالنسبة للمراقب الخارجي، كان توافقاً أعرج، إن لم يكن تنافراً، ظهر بشكل محدود مع قيام الثورة، وتخلخل خلال الحرب، وانفرط عقده في العام الحالي. الإمبراطورية المالية في الداخل التي توجت العلاقة بينهما، قرر الأسد انتزاعها من مخلوف، وعينه على استثماراته في الخارج.

كلاهما، الأسد ومخلوف، أدركا أن المتغيرات في السنوات الأخيرة داخل العائلتين قد تسارعت، وينبغي الاستعداد لها بعد وفاة الأم أنيسة مخلوف، ومرض أخيها محمد مخلوف، عمادي هذه الشراكة، ما أنذر بالانفصال.

لم يخفِ الرئيس الابن ضيقه من مخلوف المفروض عليه بحكم القرابة، وخاله الذي يمون على عائلة الأسد، ما جعل حصانة مخلوف تنهار، وبات يطارد كمتهرب من الضرائب، ولا يستبعد معاملته كمحتال، بعدما منع من السفر.

مخلوف كان واعياً لهذه المتغيرات، وبدأ في وقت مبكر تهريب ما نهبه من أموال، والتوسع في الاستثمارات خارج سورية، خاصة بعدما ترنح النظام أكثر من مرة، فعمل حسابه، في حال سقط فسوف يصبح الأسد عالة على أموال لم يحصل عليها بجهده، ذلك منطق مخلوف، وبناء عليه لن يسلمها له، سيتخلى عن أموال الداخل للجمعيات الخيرية.

وضَع الرئيسُ الأب الأسس لبناء سورية الحديثة، بحيث تكون مزرعة تعود ملكيتها إلى عائلته، وتتعهد عائلة مخلوف بجباية ما تدره من أموال. سورية الحديثة قوية بضمانة أجهزة مخابرات جرى تحديثها بخبرات دول الاتحاد السوفيتي السابق، وشبكة من العملاء والمخبرين، وجيش عقائدي يقوده ضباط موالون، واعتماد الشبيحة كاحتياط عملياتي، وأحزاب تلغو بالشعارات وتتصيد الوظائف، بينما الوزارات والمؤسسات تنغل فيها الرشوة، وعلى السطح طاقم مطواع من رجال الأعمال، بينما المجتمع ممزق بطوائفه كافة إلى طرفين متعادِيَين، يتحكم بهما صراع يشلهما. هذه سورية الحديثة التي ورثها الابن مع خطة طريق يسير على خطاها.

لم تصمد هذه الخريطة أكثر من عشر سنوات، مع أن الرئيس الوريث نجح في تسويق نفسه كزعيم قومي من خلال واجهة براقة أسهمت في صناعتها شركات علاقات عامة غربية، وأحزاب لبنانية، وأجراء محليين مطبلين ومنتفعين، ومحللين سياسيين عرب بمرتبة عملاء، إضافة إلى استمالة فنانين بالمآدب والفنادق والظهور على الشاشات يؤدون أدواراً قومية زاعقة في المهرجانات والمؤتمرات الفنية، يكافؤون بأوسمة، وموعودون بجوائز وأفلام ومسلسلات تلفزيونية…

خلالها تراجعت سورية على المستوى الإقليمي، وخرج الجيش السوري من لبنان، وجاء الانفجار الحقيقي مع الاحتجاجات والمظاهرات التي عمت سورية، طالبت بإصلاحات، رفضها الأسد وأسقطت سورية أسيرة حرب، أغرقتها بالدمار والديون، تتالت حكومات مقيدة اليدين، عاجزة لم تفعل شيئاً سوى تحميل الشعب أعباء عجز الميزانية المتلاحق، وانتظار ما تجود به كرم الإعانات والمساعدات الخارجية، ذهب أغلبها تسديد رواتب الجيش والميليشيات والموظفين، ما شكل عبئاً شهرياً على عاتق خزينة شبه فارغة ودولة مفلسة.

كلاهما، الأسد ومخلوف، لم يؤرقهما التعثر المزمن للناس في تعاقب أزمات المعيشة، كانت لديهما القناعة الكاملة أنه مهما جار النهب على هذا الشعب فلديه القدرة الخارقة على تدبير أحواله، ولو سدّ جوعه من حاويات القمامة. هذه هي المقاومة في حقيقتها التي كان الرئيس يتحدث عنها، ولم تكن سوى شعب صابر على الاستبداد والقهر والأكاذيب، مع شظف العيش.

أسس النهب المصدر الوفير لارتزاق العائلتين طوال عقود من استباحة البلد، وارسال الأموال إلى البنوك الأجنبية. تاجرت عائلة مخلوف بنفوذها بالاستناد إلى سلطة الأسد المطلقة. ففي سورية، النفوذ أولاً، والمليارات تحصيل حاصل.

الخلاف الأخير بينهما لا يحيل إلى أية نوازع سياسية، إنه نزاع عائلي بحت، العائلتان تتحاصصان من أجل مستقبل الأولاد، يجب ألا يقل مستواهم الاجتماعي في بلدان اللجوء عن مستوى العم رفعت، وإلا هل يعقل أن يعيشوا في مخيم، خاصة أن الأب كان رئيسا للجمهورية والأم سيدة أولى. هذا لا يمنع من تبادل الاتهامات المشروعة عند توزيع الحصص، خاصة أن هدر الأموال المشتركة، كان بهدايا تبلغ ملايين الدولارات، لوحة فنية، سيارات فخمة وحديثة جدا للأولاد، شراء سلسلة مطاعم، فنادق، منتجعات، قصور، استثمارات في بلاد العالم، إذ لا أمان من الشعب المنهوب.

اللافت أن الخلاف لم يثر الكثير من اللغط حول المليارات المسروقة، ولم يخطر للموالين سوى الجدل حول هل يحق للأسد انتزاع المليارات من مخلوف، وفيما إذا كان يجوز لمخلوف التمرد على الأسد؟ ما دل إلى زرع قيم ضمن حاضنتهم الشعبية تختص بعائلتين، ينبغي الا يتعدى انتقادهما، أكثر من الانحياز لأحدهما، لكن لا يجوز التساؤل عن مصدر هذه الأموال، كانا فوق النقد.

بينما الشعب المغلوب على أمره، لم يضمد جراحه من حرب عبثية استمرت نحو عقد ولم تنته بعد. دفع تكاليفها ملايين الشهداء والجرحى والمعاقين والمعتقلين والمفقودين والمخطوفين والنازحين والمهجرين… أما الباقون على قيود الوطن، فيعانون من أزمات الكهرباء والماء والمازوت والبنزين والخبز … يعبر عنها هذا المنظر من مواكب عبوات الغاز يقف إلى جوارها رجال وأطفال ونساء ينتظرون دورهم في تبديلها، ينظم الدور جنود ربما كانوا سوريين أو شبيحة أو روس، وقد يستعملون الهراوات فيما أذا احتج أحدهم على هذا الاذلال. ثم الانحدار الرهيب لليرة السورية، ما خلف غلاء فاحشاً يتزايد يومياً، ذهب بهم إلى فاقة ما بعدها فاقة، هناك رجال ينتحرون لأنه ليس لديهم ما يطعمون أولادهم، وهناك من قتلوا أولادهم قبل الانتحار، وأخذوهم معهم إلى الموت، لئلا يتركوهم للشقاء.

هل يثور الشعب؟ الدرس الدموي لم ينته بعد، الناس اعتادوا على ما أصبح مفروغاً منه؛ العذاب والجوع والقهر، الزمن ضدهم، وإن كان في النهاية لصالحهم. المحير هم الموالون، الذين يقاسون مثل الآخرين، لماذا يدافعون عن هذا النظام حتى الموت؟ متى سيفهمون قصة المقاومة والممانعة التي يدفعون أثمانها ما يعادل الموت، وربما ما يفوقه؟ لماذا يحملون أعباء ميتتين؟