تعرّف أغلب السوريين إلى تاريخهم القريب ما قبل الاستقلال وما بعده من المسلسلات الدرامية، شاركهم العرب الذين تابعوا معهم الفرجة. تاريخ بالمجمل لا يزيد عن تخيّلات صانعيه وابتكاراتهم، إضافة إلى ما وصل إلى مسامعهم من الكبار في السن، وما تناقلته الألسن، والقليل من التاريخ. وهي أشبه بالحكايا كي لا نقول الأساطير، لكنها لا ترقى ولا تنحط إلى الحقيقي، أو الأقرب إلى الحقيقي.
وكما أفردت للخيال مساحات كبيرة، أفردت للضغائن مساحات لا تقل عنها. لا يجوز في الدراما التاريخية، استخدام الخيال إلا ليؤكد التاريخ، لا العبث فيه، أي إن الخيال يوظف لخدمته، بالذهاب إلى العصر والتماهي معه، والإحساس بأننا نتحرك في داخله وبين معالمه، ومخاطبة بشر مثلنا، حاولوا فعل شيء ما صحيحاً كان أو خاطئاً، فالخيال وسيلة للعبور إلى الماضي، لا اختلاق ماض من أفكار غثة، عابثة وسقيمة. ما يوجب أن يكون جسم الأحداث واقعياً.
” تنتهج السياسات المغرضة سُبلاً تحميها من الماضي”
هناك اعتقاد أن لا أحد بمنجاة منه، لكن التاريخ ليس الإله الذي يعرف كل شيء، نحن الذين نكتبه، لا نصنعه، الخيانة هي في صناعة تاريخ لا نعرفه، وإسباغ عليه ما ليس فيه. الكشف عن التاريخ السوري سيواجه استعصاء، مادام أنه عالق في تزوير مديد، فبعدما جرى تصنيف فترة ما بعد الاستقلال إلى ما قبل ما يدعى بـ”ثورة 8 آذار” فترة رجعية واضطرابات ونزاعات، وانقلابات متواترة ومتعثرة، لا تستقر على حال، وصمت شخصياته، مهما كان رأينا فيها -فهم ليسوا ملائكة- بالإقطاعية والعمالة، وممالأة القوى الأجنبية، من فرنسيين وإنجليز، وخيانة فلسطين. فعُتّم على شكري القوتلي وخالد العظم ومعهما جميل مردم بك والشهبندر وقبلهما تاج الدين الحسني… بتعمد إساءة الفهم للتاريخ والسياسة.
برع القيمون منذ قيام البعث في التصنيف، فأنتجوا تاريخاً مريضاً بالتخوين، تحت عناوين تقدمية واشتراكية ووحدوية، فألغيت حقبة كاملة، الأجيال الجديدة تجهلها، أما الذين يعرفون طرفاً منه، فيزعمون أنها فترة ديمقراطية ووطنية بالكامل، ويشكّلون منها ماضياً مضيئاً، بينما في الحقيقة ينبغي النظر إليها من دون ادعاءات مبالغ فيها، سواء كنا معها أو ضدها.
تنتهج السياسات المغرضة سُبلاً تحميها من الماضي، فتعمد إلى التجهيل به، إن لم تستطع إخفاءه، فتشويهه. ولقد أدى صنّاع الدراما الكثير من الخدمات، كانت عن قصور وتواطؤ، ولا نستثني الغباء، وإرضاء سلطة حاقدة. تاريخ سورية القريب غير محقق -فما بالنا بالبعيد- ما زال أغلبه أسيراً للمجهول، فلا عجب أن تسرح وتمرح الدراما في أرض يباب، كما يحلو لأهواء كتّابها وتخيّلاتهم، سواء في الترميم أو التعميم.
اليوم: ماذا عن هذا الخراب الشامل الذي سيصبح تاريخاً؟ إذا انتصر القتلة، فسوف يُحمّلون مسؤولية دمار سورية للشهداء والمعتقلين والنازحين. إن الذي يتجرأ على تزوير ما يجري بمتناول أبصارنا، سيضع في المستقبل الأكاذيب في مرتبة الحقيقة.
-
المصدر :
- العربي الجديد