يخشى كثيرٌ من الكتّاب الجدد، المتحمّسين للتجريب الروائي، أن توصم محاولاتهم بأنّها متأثّرة بكاتب ما، ما داموا يطمحون إلى تجاوزه، وربما لئلّا يقعوا في حبائله، ولو كان من الكبار، سواء رحل أو لم يرحل. بينما هناك كتّاب لا يخافون من التأثّر بقدر ما يسعون إليه، إلى حدّ أنّهم يتقمّصون الكاتب فيستعيرون أفكاره وشخصياته وطريقة محاكمته للأمور، ويمكن اتّهامهم بالسرقة الأدبية، رغم أنّهم ينفونها بشدّة، ويدّعون أنّه توارُد أفكار، أو مجرّد تناص، ما دعا بعض النقاد إلى وصف التناص بالتلاص.
أحاول، في هذا المقال، الوصول إلى الوسط الذهبي، ردّاً على فكرة الخوف من التأثّر، وهل هو مشروع أم غير مشروع. خصوصاً أنّ دعوةً تُروَّج بين فترة وأخرى، يؤكّد فيها روائيون وقصّاصون شباب أنهم جيلٌ بلا آباء.
ظاهرة التأثّر تشكّل قلقاً لهؤلاء الذي يريدون التفرّد في كتاباتهم. من الخطأ المبالغة بهذا الاعتقاد، حسب بعض النقّاد هذا القلق لا يؤرق إلّا ذوي المواهب المتواضعة، والتي لا تخفي تنفّجاً تُداريه بالأصالة، بينما الخلّاق، حسب الأميركي إمرسون، يعرف كيف يستعير؛ أي أنّ الاستعارة لا تكفي، وإنما أن تعرف كيف. فالمواهب القوية تُلهمها العبقريات التي سبقتها، أي أنّ أعمال هوميروس وشكسبير ووليم ثاكري وإليوت وجويس وغيرها، يتبدّى تأثيرها الحميد الذي لا يستهان به في أنها مُلهمة. ويمكن القول، حسب الناقد هارولد بلوم، إنّ الكتابة العظيمة هي دائماً نوع من إعادة الكتابة أو التنقيح. هذا إذا كانت عظيمة فعلاً.
هذا الادّعاء ونقيضه لا يثبتان شيئاً نهائياً، فالكاتب بطبيعة الحال عرضة للمؤثّرات، عن وعي أو بلا وعي، شاء أم أبى. ذلك أن الأدب الذي نقتات منه هو مكتبة عالمية تشكّل تراثاً إنسانياً يمثّل المناخ الذي نتنفّس من خلاله، فنحن نقرأ كلّ شيء، ويروق لنا بعضه أو الكثير منه؛ فترى إلى أيّ حد نتأثر به، وما الذي يفعله فينا؟ لا أحد يدري فعلاً، ولا نزعم التفرّد. ربما يستحسن التأثّر عن وعي، كي يمكننا تفعيله، والإضافة إليه، وربما تجنّبه.
ربما يستحسن التأثّر عن وعي كي يمكننا تفعيله وربما تجنّبه
من هذا الجانب الواعي، يلعب قلق التأثّر دوراً إيجابياً، في محاولة الكاتب أن يكون مختلفاً على عدّة أصعدة: عمّا يقرأه، وعن المستقر في داخله، من ناحية؛ ما يسهم في كسر ما يختزنه في قوقعة يُخشى أن تضمر في السكون، فيدعها تتفتّح أو تنفجر؛ ومن جانب آخر، مختلف عن الأعمال المتراكمة في داخله والتي تشمل إرثه. عندئذ يصحّ القول عن الكتابة العظيمة إنها ابتكار من اختراع الكاتب نفسه، وبأصالة إبداعية تمزج التأثّر بمنجز ما مضى ولم يمضِ، يسترشدان بقلق الكاتب، ما يفسح المجال لتحقق الذات الإبداعية.
كأمثلة عملية، يشير هارولد بلوم إلى ثلاثة روائيين أميركيين كبار، ذوي تأثير كبير في الأجيال التي جاءت بعدهم على مستوى أميركا والعالم، كانوا بالذات عرضة للتأثر، وهُم: هيمنغواي، فيتزجيرالد، وفوكنر. ثلاثتهم تأثّروا بجوزيف كونراد، الروائي البولدني الذي كتب بالإنكليزية، واستطاعوا ترويض ما تأثّروا به ببراعة. فبالنسبة إلى هيمنغواي، مزج كونراد بمارك توين، أما فيتزجيرالد فمزجه بهنري جيمس، بينما فوكنر مزجه بهرمان ملفل.
هذا المزيج لم يبقَ على حاله؛ كانوا بما امتلكوه من براعة قد قاموا بتحويله إلى أعمال مركّبة، نابعة منهم، ومتأثّرة في النهاية بعصرهم، بالشراكة مع تخيّلاتهم. فالكاتب ليس إنسانا صلداً، إنه قابل لجميع المؤثّرات، يصطفي منها الأكثر تعبيراً عمّا يرغب أو يريد تحقيقه، وليس بلا أمانة، بحيث يدرك ما يأخذه، وما يدعه، فلا يسطو على جهد غيره. فالتأثر ليس السطو؛ التأثر يجعلنا ندرك عظمة ما أنجزه غيرنا، ما يمنعنا من السطو عليه، ويجعلنا ندرك أن العظمة أمرٌ ليس مستحيلاً، بل يمكننا الارتقاء إليها أيضاً.
-
المصدر :
- العربي الجديد