اختارت جماعة من الكتّاب والفنانين الحياد، ليس الحياد الإيجابي القديم الذي ولّى زمانه، وإنما نوع مستحدث يتلاءم مع الكارثة التي تعصف منذ سبع سنوات. وكان في الوقوف على مسافة واحدة من النظام والشعب، كلاهما لا يعنيهما أمرهما إلا من ناحية أنهم سيكونون الحكم بينهما، والقاضي التاريخي الذي سيقدّم للمستقبل شهادته، شهادة المراقب الحصيف، وشاهد العيان الموثوق بحياديته. وهذا لن يحصل إلا بانتهاء الحرب الحالية، وهي حرب قد تطول، ما دامت خاضعة لمساومات الدول الكبرى ومناوراتها.
لن يعلنوا موقفهم النهائي إلا بعدما يتبيّنون الأبيض من الأسود، فالمظاهرات والاحتجاجات والانتفاضة السلمية، وما مارسه النظام من قتل ومداهمة منازل وإعدامات ميدانية لم تعطهم فكرة واضحة بعد؛ أيّها الأبيض وأيّها الأسود؟ ما زال الرمادي سيد الموقف، بينما نزيف الدم يُغرق سورية بمجازر تضج في وسائل الإعلام، والشهداء يشيعون خفية.
حرصاً على الحيادية، لم يؤخذ بالاعتبار القمع الممنهج للنظام طوال ما يزيد على أربعين عاماً، استباح بها الشعب بالسجون والمعتقلات، تراكمت خلالها مظالم، أدت إلى قيام الاحتجاجات ومنها إلى الثورة. فالحياد يتطلب من المحايد، ليكون سليم الرأي ألا يلتفت لهذه التعديات، وألا يحمل أفكاراً مسبقة، أو التساؤل لماذا قامت الثورة؟
” الحياد يتطلب من المحايد ألا يحمل أفكاراً مسبقة أو التساؤل لماذا قامت الثورة”
وإذا كانوا قد سارعوا إلى إصدار أحكامهم المنحازة إلى النظام، فبالنظر إلى ما وصلت إليه الحرب بعد سنوات من اندلاعها، بعدما وجدوا في “داعش” و”النصرة” وأشباههما، ما يثبت أن الثورة لم تكن ثورة، وأن قصف النظام للمدن والقرى والمستشفيات والأفران والأسواق الشعبية كان حرباً ضد الإرهاب. إذاً يجب على طبيب العيون أن يكون ديكتاتوراً رغماً عنه، وعلى النمط النموذجي الستاليني والنازي معاً.
للعلم، لا يسكن هؤلاء المحايدون الأبراج العاجية، إنهم من هذا الشعب، أي من الأنواع الذين يتحسّسون آلامه، من رقيقي الحال والمشاعر، لكن الآلام أصبحت موضة قديمة. في زمن كان التباكي على المظلومين يسارية محمودة، لكنه مضى، وبما أنهم يتميّزون عن أمثالهم بأنهم يكتبون في الأدب، ويقرضون الشعر، ويحبون الفن التشكيلي والسينما والموسيقا السيمفونية، ويعتبرون الحرية الهواء الذي يتنفسونه… ولاعتبارات خاصة سببها هذا التميّز بالذات، اعتورت مواقفهم بعض الأنانية، من باب الحفاظ على النوع، فالحرية لا تليق إلا بهم وحدهم، مع التوق إلى سكينة النفس، ولو سحق الشعب كله، وتوفر الهدوء ولو أدى القصف إلى تدمير سورية غير المفيدة، وأن يقدر الجمهور أعمالهم الرائدة، ولو كان فيها تهجير للسوريين المشاغبين من أراضي الجمهورية المتجانسة الوليدة.
مشكلة الحياد المنشود، ليكون محايداً، ألا يكون ذريعة لتزوير الحقائق، نصف الحقيقة لا يغني عن الحقيقة. إن وقوفهم جهراً مع الطاغية إنصاف لجرأتهم، ولتماديهم في الموالاة، وأفضل من ابتداع هذا الحياد اللعين، ولو كان في رثاء الضحايا، وربما في الصمت فضيلة، وإن لم يكن هذا أوانها.
-
المصدر :
- العربي الجديد