بعد سبع سنوات من الحرب، بلغ الإنهاك بالسوريين في الداخل أنهم لم يعودوا يرغبون بأكثر من تأمين طعام أولادهم، وبعض المتع التي لا تتعدّى الفرجة على التلفزيون، وزيارة الأقارب والأصحاب، والذهاب ربما الى “السيران”، ولو كان بين الركام، علّهم يستعيدونه، عندما لم تكن الأرض قاحلة، ولا الأشجار محترقة؛ يطمحون إلى حياة يفتقدونها.
أصبحت عبارة “كنّا عايشين” تُقال بالصوت العالي، بعدما كانت مقتصرة على الموالين، بما يُحيل الآخرين إلى الحياة الرغيدة التي كانت قبل “الربيع العربي”، ولتذهب الحرية إلى الجحيم، فما عاشوه أسوأ من الجحيم نفسه، بالنظر إلى حياة كانت تحت القصف واحتمالات النزوح والتشرّد، والتعرّض للجوع والركوع. مع أنه بالعودة إلى الأيام الخوالي، كانوا يعانون ألف ميتة وهم يتنقّلون من مخفر لمستشفى، ومن معتقل إلى سجن، لا يتركون باباً إلا ويطرقونه بحثاً عن ابن أو أب، اختفى في غياهب أحد فروع الأمن.
هذا الدرس سيجعلهم أشدّ حرصاً في الأيام القادمة على عدم الإتيان بما يشي بمطالبات تُفسَّر على أنها حق لهم، بعدما تكرّست من حق النظام عليهم؛ إنها الطاعة العمياء. هذا ما أودت به الأنظمة الشمولية بالناس؛ البحث عن الأمان، ولو كان تحت القهر. وهي نظرة فيها من الصواب أحياناً ما يقدّم ضرورة العيش على ما عداها من القيم، فأن نكون على قيد الحياة، يعني تحويلنا إلى أناس واقعيّين يهتمون بحفظ النوع فقط، لا الإحساس بأننا بشر.
المشاعر الإنسانية باتت نوعاً من الرخاء المفسِد، يستدرج الناس إلى الاحتجاج والثورة، ويمزّق أبناء الوطن إلى موالين ومتمرّدين، ويُشيع الفوضى والكراهية، لذلك تنشأ الحاجة الماسة إلى السجون والمحاكم والمعتقلات والتأديب والمشانق… لإحلال الأمن، وإنهاء صراعات جرّاء ادعاءات الحرية. فالخطر الأكبر، هو مجرد الشعور بأنك إنسان.
الحاجات الفيزيولوجية، هي الحاجات الأساسية، هل هناك على سبيل المثال، حاجة تفوق حرية التنفس؟ أما الحريات الأخرى، فمن الكماليات الضارة، يستحسن الاستغناء عنها، لما تؤدّي إليه من نزاعات تجيّش الشعب الواحد إلى فرق متقاتلة. حسب النظام، السلام المجتمعي يُغنْي عن صناديق الانتخابات، والديمقراطيات الزائفة، أضرارها لا تخفى: شيوع الرعب من عدم الاستقرار.
إن انتشار عدم الأمان بات حقيقة، وترسّخ الإرهاب كخبر يومي، لا يمكن تجاهله… هذا الانفلات والتسيّب، لا يمكن ضبطهما والتغلّب عليهما، إلّا بالهيمنة الكاملة على العقول، ليغدو ما يتداول من أفكار يدور حول أننا مهددون بالحرية، لم الحرية، إذا كانت مناخاً صالحاً للفوضى؟
تسيطر الأنظمة الشمولية على خيارات الموت، فهي التي تتحكّم بحياة البشر، تقتلهم بالموت السريع تحت التعذيب، أو البطيء، بالتعفّن في السجون. أما الموت البطيء جداً، فيغطي الحياة كلها بالاحتجاز في جحر من الفاقة، مسمّم بشعارات الولاء والخنوع، والتخدير بالصمود والتصدي والمقاومة والممانعة، برعاية العملاء من السفلة الكبار إلى صغار المخبرين.
-
المصدر :
- العربي الجديد