بعد اطلاعي على العدد المتميّز الذي أصدرته مجلة “العربي القديم”، وقد خصصته بشكل كامل، لإلقاء نظرة أدبية، اجتماعية سياسية نقدية تكريمية على أعمال الأديب الكبير فواز حداد، أدركت أن مهمة استعادة سوريا، مُوكلةٌ على أكتاف أبنائِها جميعاً، ويجب على أبناء كل منطقة، أو قرية، أو مدينة أن يتبنّوا مسرعين مهمة استعادة سوريا، التي بدأت صورتها تذوب، بفعل التغيرات، والمؤامرات والحروب، والخيانات التي تعرضت لها. من هنا أعتقد أن هذه المَهمة لا تبدأ، إلا من خلال استعادة دمشق، التي خصها الغُزاة بحجمٍ مهولٍ رهيبٍ من محاولات تغيير الهوية، والجغرافيا والديمغرافيا، وصولاً إلى محاولات إعادة كتابة التاريخ.

إن استعادة مدينة دمشق، بهويتها المستمرة منذ بضعة آلاف من السنين، غير ممكن إن لم يتصدَّ الأدب لِهذا المشروع، بوصفه ركيزة أساسية للفن عموماً، من أغانٍ، وأفلام، ومسرحيات تستلهم عملاً واحداً يكون بمثابة نبراس للبقية.

الأدب هو سردية التاريخ الشفوية، التي عاشها ويعيشها كل فرد كحالة خاصة، رأى فيها بلده من وجهة نظره، أثّر فيها وأثّرت فيه، هذا التفاعل الصامت هو ما ينتج الأدب الحقيقي: أدب الشعوب الخالد. إن أعمال فواز حداد تتبدى في هذا السياق كنموذج أساسي لعملية استعادة دمشق، أو التذكير بها إن أمكن، فمجمل رواياته التي استفاض الزملاء الأعزاء في ملف “العربي القديم” في تفنيدها وتحليلها، والإضاءة على أهميتها عملاً فعملاً، إنْ قُرئت بتسلسل تاريخي موضوعي، فهي تعطي لأي قارئ يجهل ماهية دمشق، وماهية سوريا، صورة تفصيلية عن تلك البلاد التي مرّت بها شخصيات رواياته، متأمّلة تحوّلات مدينة، تقف ذاهلة أمام ما يُصنع بها. إن تركيز فواز حداد على القضية السورية، متخذاً من دمشق منطلقاً لتفاعل الشخصيات مع المكان والزمان والتاريخ، أمر مهم جداً، فهو لم يختلق واقعاً افتراضياً، ليرمي شخوصه فوقها، ولم يفتعل زمناً مختلفاً، ليسقط فوقه ما يريد أن يقوله، بل هو قال ما قال بكل وضوح وجرأة وتحدٍّ، تُرفع له القبعات.

في رائعته “السوريون الأعداء”، قدّم حداد قراءة للمصيبة السورية الطائفية، التي من غير الممكن على أي دارس، أو ناقد، أو محلل أن يفهم تبدّلات المجتمع السوري، من دون الإشارة إلى المأزق الطائفي المربك، الذي اختلقته السلطة السياسية، وورّطت أبناء الشعب السوري به. إنه داء كل علّة سورية، مهما حاول المتأدّلجون أن يجمّلوا، أو يشوّهوا صورة الواقع، بأقنعة زائفة. في هذه الرواية قال فواز حداد ما يعرفه كل سوري ولا يقوله، استفاض في شرحه وتعليله بحرفية جرّاح يشرح المسألة، وهو يقف أمام خارطة تعقيدات الشخصيات الروائية، متسائلاً بأسى: كيف يمكن أن يكون أبناء الوطن الواحد أعداءً، رغم أنهم يحملون الهوية ذاتها، والتاريخ نفسه؟ ليخلص إلى أن السبب هو عبث العابثين بالحياة اليومية للسوريين جميعهم.

تشكّل أعمال حداد شهادة عابرة للزمن، تعرّي قتامة الوقت، وليس وحده من تصدى لمَهمة بكل هذا الإلحاح وتلك الضرورة، فقد سبقه قلائل، وسيكمل بعده آخرون مَهمة شاقة، لا يماثلها في الصعوبة سوى السباحة عكس التيار في نهر مزدحم بالصخور.

ينتمي فواز حداد إلى فئة من الكتّاب، يمكن أن نطلق عليها (أدباء السرد الحاد)، الذي لا يداهن الواقع، ولا يجمّله، وهذا الأدب الذي يبقى باعتقادي، وينفع الناس رغماً عن أنف (كتاب التاريخ المزيّف).

إن كان علم الاجتماع، يؤخذ من التاريخ، فإن حركة الشعوب تؤخذ من الأدب، ولنا في ذلك عِبَرٌ من المسرح اليوناني، حتى المسرح الشكسبيري، مروراً بالروايات الروسية، والفرنسية والمصرية، التي قرأت تاريخ شعوبها بطريقة مختلفة عن الكتب الرسمية.

لطالما كانت شخصية الروائي جزءاً لا يتجزأ من نتاجه الإبداعي، رغم آلاف الأوراق النقدية والبحثية، التي تدعو إلى فصل المنتَج الإبداعي للمؤلف عن مساره الحياتيّ والشخصيّ، وأرى أن هذه النظرية، قد تنطبق على من نحبّه من الروائيين، أو الشعراء أصحاب مسارات حياتية غير متوافقة، مع نظم عالمنا الذي نعيش فيه، حيث إننا وفي خضم تماهينا مع المنتَج الإبداعي للمؤلف، نتردّد في قبول سرديّته الفنية، بسبب مواقفه الشخصية أو السياسية، ولنا في هذا السياق أمثلة لا تنتهي، تبدأ من بيتر هاندكه المؤيد للإبادة الصربية في البوسنة على سبيل المثال، مروراً بالروائي الفرنسي سيلين المؤيد للنازية، والموسيقار زياد الرحباني صاحب الإعجاب الكبير بتجربة الجمهورية الإسلامية في إيران، وغيرهم العشرات من المثقفين والفنانين، الذين أثْروا عوالمنا وحيواتنا، ولكنهم ارتضوا مواقف غرائبية، ربما تكون من باب التمييز، أو النوازع الفاشية فعلاً.

تفرز القضايا الكبرى مثقفينَ كباراً، يستنزفون أعمارهم، ويحرقون ذواتهم ذوداً عن تلك القيم والمبادئ، التي قرروا، عن قناعة، أن يضحّوا بكل ما لديهم من أجل الدفاع عنها، فناً وأدباً، وسياق حياة. فواز حداد بالتأكيد هو واحد من أولئك الذين ساروا طويلاً على دروب الحرية، وهو روائي بحجم مايسترو، يقود شخوصه نحو الحقيقة الذاتية، رافضاً العزف المنفرد، أو سلطة الفرد الواحد الذي يطرب الجماهير، ينتمي إلى سلالة تمتد منذ سبعين عاماً على الأقل لطالبي الحرية، والديمقراطية والعدالة الاجتماعية في بلاده، ولا تختلف أعمال حداد بتاتاً عن أعمال روائيي أميركا اللاتينية، الذين هجّروا واعتقلوا، ودفعوا أثماناً باهظة، وهم يقارعون دكتاتوريات لا تنتمي لزمانها ولا لتاريخها، فنشأت في أميركا اللاتينية حينها موجة الرواية المناهضة للدكتاتورية. ورغم الفوارق الأساسية بين تجربة العالم العربي، وتجربة أميركا اللاتينية في تلقّي الأدب وكتابته، وربما نجاحه، إلا أننا نحن معشر القراء والنقاد والمتابعين مجبرون على عقد تلك المقارنة ورفع القبعات، وربما الانحناء، أمام تجارب كتّاب عرب وسوريين، قرروا مواجهة نظام عربي كامل وصارم، يتجاهل إبداعهم، ويبعدهم عن سياق القراء، والتداول الطبيعي للكِتاب، الذي يقرر فيه القارئ وحده من دون أي تدخل، أو قمع، أو توجيه، من هو الكتاب الأفضل. من كل هذا الضجيج لا تبقى إلا الشهادات التي أنجزها روائيون محترفون، حول عصرهم، وما جرى وسيجري، تبقى قراءتهم لعالم يُسجن فيه الإنسان لمجرّد حيازته لكتاب، أو قراءته لمنشور، أو خروجه في مظاهرة قد تكون مشابهة لجنازته.

وإن فشلت المؤسسات الرسمية في تسليط الضوء على هؤلاء الكتّاب، وفواز حداد واحد منهم بالطبع، لأسباب نعرفها جميعاً، فلا يجب علينا نحن دعاة المجتمع المدني ونشطائه مناهضة للمركزية، والقرار الأوحد أن نقبل إلا بترسيخ تلك الشهادات التي تمثّلنا جميعاً، وتمثّل جيلنا وما حصل أمام أعيننا في تلك الحياة البائسة التي عشناها.

إن شهادة فواز حداد الروائية التي أنجزها عبر حياته، تعكس بلا ريب جزءاً أساسياً من الواقع الذي عشناه، بكل أفراحه وأحزانه، مخاوفه وهذياناته، ممتلكاً القدرة على قول ما أراد بكل جرأة وصمود وجَلَد وبلاغة. قال ما عاشه وفكّر فيه، نسجه بهدوء وبطء، وأحياناً كثيرة بصمت كبير في روايات، لا يمكن لأي قارئ غربي، أو شرقي إن أراد فهم سوريا، إلا أن يقرأ أعماله، وهي بكل تأكيد جزء أساسي من موزاييك دمشق، وفسيفساء سوريا الكبيرة التي يتلألأ فيها روائيون كِبار، قدموا لبلادهم أضعاف ما قدمته لهم.

يسألني الأصدقاء الفرنسيون والأوروبيون عن كيفية فهم سوريا التي نتحدث عنها، فأجيبهم بأن كتب التاريخ والسياسة والأغاني والأشعار وحدها لا تكفي، ولا حتى الوثائقيات ولا السينما، ولا حتى الدراما التلفزيونية تكفي لفهم أي بلد في العالم، فإن أردت التعرف على بلد، وأن تعيش بين حنانيه، فليس أمامك إلا تلك الأعمال الروائية التي كُتبت من حبر ودم، وليس من مال وابتسامات.

تلك الأعمال التي تختصر في ثناياها أوطاناً ومجتمعات، يقولون: إن الساسة يذهبون والروائيين باقون، وأقول: إن الرواية هي التاريخ غير الرسمي للشعوب العربية، بكل غضبها وحزنها وفرحها، وتأمّلها. فواز حداد لم يكن بعيداً عن ذلك التاريخ الموازي أبداً، بل كان على الدوام يسعى لالتقاط حركة الشعب المعاصرة، وأسباب فشله في تشكيل نفسه من جديد، وهو يكرر صورة شخصياته التي تذهب إلى المسرح كي تتابع عرضاً مسرحياً، تكرر هذا الأمر في عدد من رواياته ربما أهمها “مشهد عابر”، و“تياترو 49” وغيرها، وهي صورة تشبه، ما فعله فواز حداد نفسه، في مراقبة مسرح الحياة في سوريا، من منبر المشاهد الناقد الذي يحمل في يده دفتر ملاحظات، يدوّن فيه رؤوس أقلام لما يشاهده، فإن كانت الحياة مسرحاً، وما نحن إلا الممثلون فوق خشبتها، فإن الحدّاد الذي يطرق ذلك الفولاذ الخام، وتلك القصص البِكْر، كي يستخرج منها معدنها الأصيل، هو ذلك الحدّاد السوري الذي يذكّر السوريين بأنهم أخوة، رغم أنه يصفهم بالأعداء، وبأنهم خضعوا طويلاً للتطهير الأرسطي، دون أن يعلموا، بعد أن شُحنوا بإعلام أخافهم، وسرديّة أرهبتهم، وسياق دفعهم نحو النكوص، حامدين الله أنهم لم يخوضوا تجربة التمرد.

تفسّر روايات فواز حداد اللاشيء الذي حطمته السياسة، وتقرأ المسكوت عنه بين السطور، وهو يحاول، برفقة كوكبة من الأدباء والمثقفين الثوريين، أن يعيدوا، وسط كل هذا الرُكام الذي يُسمّى أوطاناً، الشيء إلى معناه، والصفر إلى ماهيّته على يمين الأرقام.