بالعودة إلى القرن الماضي، أزهقت الإيديولوجية النازية والفاشية أرواح خمسين مليوناً من البشر. وكخاتمة على السوية نفسها، ألقيت القنبلة الذرية فوق هيروشيما وناغازاكي. كانت تحذيراً إرهابياً أمريكياً من حرب عالمية ثالثة لن تبقي بشراً ولا حجراً.

لم يقصر حملة الإيديولجية الشيوعية، في استعادة الاتهامات بالعمالة والخيانة، التي كانت رائجة بين الحربين العالميتين من محاكمات دورية وإعدامات ونفي وسجون، وأفلحت في إخماد أية بارقة ديمقراطية، غير أن انتفاضة بودابست وربيع براغ، سرعان ما أعيد إحياؤهما قبل سقوط جدار برلين. في روسيا بالذات بلغ التخوين أقصاه في الفترة الجدانوفية وذهب ضحيتها أهم الكتاب السوفييت (ماندلشتام، اسحاق بابل…)، وكادوا أن يجرّموا غيرهم (غوركي وباسترناك…).

بالمقابل لعب تزمّت الإيديولوجية الرأسمالية أدوراً قمعية للفكر، ففي أمريكا خوّنت المكارثية كبار الكُتاب والفنانين من الأمريكيين وغيرهم من الجنسيات الوافدة هرباً من الاضطهاد (برخت، شابلن، فريتز لانغ…)، واضطرتهم إلى متابعة الهجرة إلى منفى آخر. في الواقع اللائحة طويلة، التعامل مع الكتاب من هكذا منظار إيديولوجي ضيق، يحوّل المبدع إلى آلة إنتاجية، ومن ثم يسهّل تخوينه، أو إعلاء شأنه.

في القرن الحالي، بعد هزيمة الاشتراكيات، ضعف تأثير الإيديولوجيات إلى حدّ التلاشي، جرى التنكّر لها، بالعودة إلى معزوفة إيديولوجية أقدم، وهي الأشمل: الخير والشر، فالعالم المتقدم زعم أنه يمثل الخير، ووصف الإسلام بعدوّ الديمقراطيات الغربية.

العالم العربي موطن الأديان، وبما يحتويه من جماعات متديّنة بأنواعهم المختلفة الجهاديون والمعتدلون والمتذرّعون بالإيمان، زعم أنه الأحق بتمثيل الخير. وهو الأقرب إلى الصواب، فالأديان هي التي صاغت النسخة الأصلية للخير والشر، لكن ما يخلخل إدعاءنا ويسيء إليه، الخلافات داخل الوحدة الإسلامية المتشرذمة، وتورّطها في زواريب تخريجات الشيعة والسنّة الثأرية وغيرها من مذاهب تنشطت وأصبح لها دول واصطفافات ومناطق نفوذ.

حتى الآن لم يتبرّع أحد بتمثيل الشر، مع أنها أشد ما تظهر في مجريات ما يحدث من صراعات وحروب، فالشر هو اللاعب الأكبر، حتى أن الأديان التي تحضّ على التسامح، ينقلب بها الحال فتحضّ على قطع الرؤوس والتمثيل بالجثث. والديمقراطيات التي تدعو إلى السلام، لا تمنع الحرب بل تؤجّجها، وتتجاهل مئات آلاف الضحايا وما تحدثه من دمار هائل. بالنظر إلى الأفعال، لن نميّز هذا عن ذاك، الفوارق ضاعت بينهم، وتحت الراية نفسها، الخير ضد الشر، وحسب ادّعاءات الطرفين، يمثل كل منهما الخير، ضد الشر الذي لا يمثله أي منهما.

الخير والشر اقنومان فضفاضان يتسعان للأطراف كلها والمزاعم كلها، ما يبيح ضرورة إعادة هيكلة النوازع الدولية في الهيمنة والتسلط، والنوازع المحلية في الاستقلال والحرية. ويهيب بالمثقفين تصنيع تركيبة إيديولوجية محدثة، خاصة وأن الصراعات اندلعت من دون تأطير أخلاقي دعائي يخفي دوافعها الحقيقية. وبالتالي ثمة حاجة إلى إيديولوجية للخير والشر لديها القدرة والحصافة على تسويغ نشدان عدالة تغفر كل هذا القتل والتدمير، والأسباب للتحريض عليهما، واختلاق المبرّرات للغزو والموت، جهاداً أو انتحاراً.

الحرب في سورية، مثال جيد على الحرب الحديثة، فالجهود منذ البداية جرت على انتزاعها من سياقها الاحتجاجي، مع أن حناجر المتظاهرين العزّل بحت بالتأكيد على السلمية، والجهود نفسها ذهبت بها إلى العسكرة التي تداعى إليها دول العالم سواء بتزويد الروس والإيرانيين للنظام بالسلاح والذرائع، أو دعم الأمريكان والأوربيون لما أصبح يدعى ثورة، بالوعود، والتهديدات والخطوط الحمراء… ثم بالإعانات الإغاثية بما يبرّئ ذمتهم ويخليهم من عذاب الضمير، لئلا يثقل اللاجئون على الحرب ويعيقون استمراريتها، وبلوغ أهدافها، فشجعوها من طرف وأحبطوها من طرف آخر، بدلاً من العمل على إيقافها. وبوسعنا القول: في هذه المعمعة، الخير لم يخفِ الشر، وملائكة الديمقراطية، لم يجعلونا نفتقد إلى الشياطين.

غضّ النظر عن الحرب الدائرة في سورية، ولو أنها طوّقت ضمن رقعة محددة لأسباب نفعية، ضحاياها بالمقارنة مع الحروب العالمية ضئيلة، لكنها مع الوقت قد تفوقها، فالقتلى والجرحى والمعوقين والنازحين تتراكم أعدادهم من يوم لآخر. وبمنظار تبسيطي، لا تخدعنا الدول التي لا تشارك بالحرب، إنها متواجدة، بحيث في مرحلة ما تستلب مصير البلد من ساحات المعارك إلى الاجتماعات المغلقة.