الحرب بين الاحتلال الإسرائيلي والفلسطينيّين مرشَّحَةٌ لتُصبح حرباً أبدية. هذا هو المتوقّع. ليس هذا الاعتقاد جديداً، بدأ قبل ثمانية عقود. لا بأس بالتشاؤم، ما يحدث يُشجّع على هذا التفكير، وإذا كان الظنّ ألّا تكون أبدية، فالغرب سيضع حدّاً لها في حال غادر الفلسطينيون بلدهم طواعية، وهو الحلّ المتداوَل فعلاً، وليس علناً، لبقاء “إسرائيل” آمنة. ما يجعله غير قابل للمناقشة اعتبار الفلسطينيّين من نوع البرابرة، يستحيل استئناسهم أو تحضيرهم إنسانياً، وهو رأي فصل.

مرجعية الحضارة الغربية تتحدّد بهذه الدول؛ أميركا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا. حكومات هذه الدول أصدرت حكمها بالإعدام على الفلسطينيّين، بعدما أصبح مجرّدُ وجودهم يُشكّل “معاداة للسامية”. أمّا العرب، فقد وُضعوا تحت الرقابة، الغرب يراقب سلوك حكوماتهم التي لن تُحرز تقدّماً إلّا إذا استطاعت إقناع شعوبها بأنّ الفلسطينيّين يُعطّلون مسيرة الازدهار العربي. فبدأت حكوماتٌ عربية بتجنيد صحافتها وإعلامها ومثقّفيها في هذا الاتجاه، دفاعاً عن الجار المهذّب “إسرائيل”، الذي لا تجمع أغلبهم حدودٌ معه، ولا حرب، وإنّما تاريخٌ من الجوار الطيّب الممتدّ في التاريخ، ما اضطرّهم إلى التنقيب عن أسانيد لمشوار السلام التليد المشرف، إن لم يوجد فسوف يُخترَع، وللدلالة على سلامة نياتهم، برهنوا على أنّ اليهود ظُلموا على أرضنا منذ عصر الجاهلية وما تلاه من عصور إسلامية، وحان أوان استدراك أخطاء الماضي وتصحيح هذا الظلم.

معيار الجانب الصحيح من التاريخ هو الانحياز للعدالة

يمكن فهم الغرب وكيف يفكّر، وأسبابه التي لا تعدم الكثير من المبرّرات، فكما هو معروف، ارتكب جرائم بحقّ اليهود، إن لم يقُم بحرقهم، فقد سلّمهم إلى المحرقة. هذه الجرائم عذّبت الضمير الغربي، ولا يمكن محوها، إلّا بإقامة دولة لهم على الجانب المقابل لأوروبا، ليس بلا مقابل، تلك المنطقة مطلوبٌ إخضاعها بزرع كيان يكون بمثابة قلعة متخمة بالسلاح والنووي، ومتفوّقة بالتكنولوجيا والديمقراطية، ومشبعة بالعنصرية، مع صلاحية تسمح لها بتطهير البلد من أهاليه وطردهم منه، وتأديب العرب بتهديدهم: أنتم مَدينون لنا بوجودكم. هذا القول لا يعدم قدراً غير قليل من الصحّة.

إذن، على الحكومات العربية أن تقف في الجانب الصحيح من التاريخ المحتكَر من الغرب. لكنّها تنسى أنّها تسارع إلى الجانب الخطأ من التاريخ، وعلى مسافة لا تُوحي بأنّها سواسية مع “إسرائيل” الوكيل الحصري والوحيد للغرب، فلا النفط يمنحها أفضلية ولا ميزة، ولا النيّات الطيبة، ولا حتى الاستسلام، أو فتح الأبواب على مصراعيها للغرب، على الرغم من استعدادها لتقديم تنازلات ثقافية، سواء بإعادة النظر في التاريخ، أو تقييد الإسلام، والوعد بتجديده.

حُجّة هذه الحكومات، القناعةُ المتولّدة عن العقود الخاسرة من الصراع العربي الإسرائيلي، كانت هزيمة 1967 توطئةً لغسل أيديهم من فلسطين، حتى أنّ انتصار ما يُدعى بحرب 1973 لم يُفلح باسترداد الثقة بقدراتها، فأصبحت مهزومةً بلا حرب، إلى حدّ باتت تخشى فيه أن تنتصر، غدا مجرّدُ التفكير بالنصر قد يرتدّ عليها بإسقاطها، لا تنشد إلّا البقاء، باسترضاء الغرب صاحب السطوة على العالَم، ما دام أنه يَسنّ القوانين ولا يتقيّد بها، ويُعطي دروساً عن حقوق الإنسان، لا يعبأ بها، وآخر ما فعله في غزّة، كان على الضدّ من الإنسانية والحقّ والقانون، تحويل الضحية إلى مجرم، والمجرم إلى ضحية.

الذي لا يُعمل حسابه هو أنّ الشعوب – ولو أنّ هذه التسمية أصبحت غير واردة، وهذا عائد لسمعتها السيّئة، فقد أُلصقت بها الهزائم كلّها باعتبارها مرتع الجهل والفقر والمرض – هذه الشعوب لديها رأيها، خاصّةً أن الصورة المشرقة للغرب قد انهارت مراراً في تعاملها الوثيق مع الدكتاتوريات، كذلك الدعم الدائم لـ”إسرائيل”، الذي تجلّى في الحرب على غزّة، في الصمت والدفاع عن الإبادة الجماعية. هذه الشعوب لم تُخدع، إذا كان الغرب على وفاق مع حكوماتها، فالشعوب على عداء مطلق معه.

معيار الوقوف على الجانب الصحيح من التاريخ، هو الانحياز للعدالة، ما يطالعنا اليوم ليس الفلسطينيين الذين تحت النار فقط، بل الشعوب العربية الواقعة بين براثن حكوماتها، ومعهم تحت القمع الأجيال الطالعة من شباب الجامعات الغربية، هؤلاء يشكّلون ذخيرة المستقبل، ولو كانت العدالة تدفع الثمن حالياً.