المعروف، من دون مبالغة، أن كلمة “ثورة” ممنوع تداولها في وسائل إعلام النظام السوري، لذلك لا يتجرأ كاتب أو محلل سياسي، على الإشارة إلى احتجاجات ٢٠١١ وما أعقبها من انتفاضة، إلى أنها كانت بدايات “ثورة”، مع أن “الثورة” اسم الشهرة لجريدة رسمية حكومية، لكن لا مجال للخلط بينهما، ما دامت الثورة في الجريدة، أمست من الماضي التعيس، حتى إنها لم تكن ثورة، كانت تعبيرا شائعا يستعمله العسكر، يتلطون وراءه لتحريك الدبابات باتجاه الأركان ومبنى الإذاعة والتلفزيون. كانت في حقيقتها السورية انقلاب ٨ آذار، أما الحركة التصحيحية، فانقلاب على الانقلابات، لم يكن للشعب فيها نصيب، عسكر يتصارعون بعضهم مع بعض للاستيلاء على السلطة.

لم تعد الثورة تصنع نظاما على غرار النظام البلشفي الروسي. باتت ما تصنعه على عداء مع الأنظمة المضادة للحريات، وإذا كان النظام السوري يخشاها، فلا عجب أنه منع استعمالها في الداخل، ولم يحاول تفاديها بإجراء إصلاحات كان مطالبا بها. أطلق عليها في وقت مبكر كي ينفيها؛ وصف الإرهاب، وتطوع كتاب موالون بإطلاق النعوت عليها، فكانت الفوضى والزلزال والمؤامرة، ليس تقية، وإنما البديل عنها، مع التأكيد على أنها إرهاب، حسب الرواية السورية الرسمية المعتمدة للتصدير إلى الخارج.

هناك اجماع على أن المعارضة لم تعد معارضة منذ تراجعت عن شرط الإفراج عن المعتقلين، استعاضت عنه بولوج مسلسل من التنازلات بات بلا قعر

لا تثير كلمة “ثورة” اللغط، بقدر ما تثير الخوف، خاصة عندما تتعلق بالحدث السوري، الذي تجاوز عشر سنوات، ومرشحا للمزيد من التجويع والتعقيد. نال الحدث فيما بعد الانتقادات من المؤمنين بالثورة ولهم الحق في ذلك، ومن الحاقدين على الثورة، وليس لهم الحق في ذلك. وإذا تسامحنا مع المؤمنين، فالسبب ما آلت إليه صورتها، إلى حد القول إنه جرى تشويهها بعدما انحدر بها ما يدعى بالمعارضة السياسية إلى الدرك الذي ما بعده درك في مساومات لم تجد شيئا، لم يكن ثمة اضطرار إليها إلا في التضحية بها.

قبل المضي قدما في مقالنا، يمكن القول، بات هناك إجماع على أن المعارضة لم تعد معارضة منذ تراجعت عن شرط الإفراج عن المعتقلين، استعاضت عنه بولوج مسلسل من التنازلات بات بلا قعر، وبلا هدف سوى البقاء على قيد مباحثات، لا تبحث عن شيء إلا التشبث باستمرارها كمعارضة على نحو عبثي، ينزع عنها قرارا لا تملكه.

بينما تعمد الحاقدون التأكيد على أن من يمثل الثورة هو الفصائل المتأسلمة المرتهنة للدول الإقليمية وغيرها من الدول، وللنظام أيضا عساها تحظى بمعبر إلى الداخل. بعض هذه الفصائل قاتلت الثورة وقتلت الناشطين الشبان، واستنزفت قوت الأهالي مع التضييق عليهم، وشاركت النظام بحصارهم والاتجار بالمساعدات، وتصرفوا على نمط داعش والقاعدة وإن تغيرت الأسماء.

ليس النظام السوري وحده من يكره الثورة، كذلك الأنظمة العربية لا تطيق سماعها، حسب تعميم صادر عن الأجهزة الإعلامية والثقافية في البلاد العربية

بينما يتعمد المنتقدون ألا يميزوا بين الثورة السلمية التي اضطرت إلى حمل السلاح في نهاية العام الأول من الاحتجاجات، دفاعا عن المدنيين، (والثورة المسلحة) إلى أن أصبح السلاح هو اللغة المعتمدة في مواجهة أسلحة النظام الثقيلة. وكان ما يميزها هو التفوق الأخلاقي، مع الوقت لم يحافظ الدخلاء على الثورة عليها، بل أهدروها، وباتت ذريعة للمناصب والنهب. ما تبقى منها أشلاء بعدما غُدر بها.

ليس النظام السوري وحده من يكره الثورة، كذلك الأنظمة العربية لا تطيق سماعها، حسب تعميم صادر عن الأجهزة الإعلامية والثقافية في البلاد العربية، تجلى في إدانة الثورات العربية، خاصة السورية، بالاستعاضة عنها بالبديل الآمن وهو “الأزمة السورية”، وكأنها مجرد حدث لا يزيد عن أزمة عابرة، بعدها يعود كل شيء إلى ما كان عليه، وكأن شيئا لم يكن. أي كأنها عقبة يمكن تجاوزها بسلام في حال طرأ تحسين على سلوك النظام، ليس تجاه شعبه، فالحكومات تتمنى على النظام إجراء بعض المتغيرات، من دون التدخل في الأمور الداخلية، تتعلق بالتضامن العربي، فتحسين سلوكه يعني إبعاد إيران عن سوريا وقطع الطريق بين حزب الله وإيران. أما سلوكه في الداخل، فلا مشكلة ولا خلاف، النظام حر في ممارسة حقه في ما يملكه من أرض وشعب.

يجري العمل ليلا نهارا على إعدام كلمة ثورة، والتخلص من أشباحها، وما أكثرهم، تلوح في عيون الرجال والنساء والأطفال، المعتقلين والمشردين واللاجئين في الخيام، وطوابير الخبز والغاز. هؤلاء يقضون مضاجع الطاغية، إنهم كابوسه الدائم.

لنعترف، إنها كلمة مخيفة، لماذا؟ لأنها تنبثق من الداخل، من الشعب، لهذا يُزعم أنها جاءت من الخارج. مصدر عظمة الثورة السورية، أنها انطلقت من المدن والأرياف، تمددت وغطت سوريا كلها.. كانت ثورة السوريين حقا.