إذا كان للحقائق القاسية نصيب في الثقافة، فالأغلب أَلا تنجو من تأثير الربيع العربي، فالربيع الذي كان عاصفاً، ودامياً، وفَّر مواقف مبذولةً بسخاءٍ مؤلم، بما تداعى عنه من قصف ودمار، وإيمان متطرف، وفتاوى قاتلة، وإرهاب واغتصاب، زوَّدت الواقع بحمولةٍ ضخمة من العنف، طرحت تحولاتٍ غير متوقعة ومفجعة، قد تجد لها الثقافة تفسيراً، لا يبقيها في إسار اللامعقول. في حال ظلَّ وضع الثقافة على ما هو عليه، سيُحاصرنا هذا اللامعقول، سنوات عديدة، قد تمتد إلى عقود، مع عذاب للضمير لا جدوى منه، إِلا في مضاعفة ذنوبنا. فالمنطقة مقبلةٌ على ما فاتها، وهو على شاكلة ثورات الطبيعة التي لا رادّ لها؛ براكين كوارث زلزالات. تفادتها سابقاً بالنوم، تحت العباءة العثمانية أربعة قرون، ثم ربع قرن، وأكثر توزعها جغرافياً في بلاد الشام، الاحتلال الانجليزي والانتداب الفرنسي، أعقبها انتظار ما سوف تتكشف عنه مآلات ثورات التحرير، وبعدها، الرضوخ لوعود الانقلابات الجذرية، اختتمت بالاستقرار العتيد. الأزمنة المضطربة لم تفض إلى ما بشَّرت به، لكنها رزحت بأثقالها فوق المنطقة، وعطلتها عن الدخول في التاريخ. المراوحة في المكان والزمان كانت سمة عقود ما بعد الاستقلال، على الرغم من الاشتراكية الظافرة، وآمال الوحدة، و”الحرية كل الحرية للشعب، ولا حرية لأعداء الشعب”. لم يتحقق منها سوى عكسها.
عانى الغرب، في القرن الماضي، من حربين عالميتين، وإزهاق أرواح ما يزيد عن خمسين مليوناً من البشر، ولم توفر ثورات القرون السابقة وحروبها أوروبا من الدمار، كما لم يفد الغرب جشعه، اضطرَّ إلى التخلي عن مستعمراته، وعلى رأسها “جوهرة التاج”. عدا عن حروبه الدينية التي امتدت مئات الأعوام غصّت بمحاكم التفتيش، ومئات المجازر…غير أنها أخلفت التقدم الأهم في مسيرة الحضارة الغربية، إزاحة الستار عن أكاذيب عظمة الدول، والوطن الاشتراكي، وقداسة الملوك، وعبادة الفرد… شعارات فبركتها أَجهزة الدعاية النشطة للامبراطويات المتهاوية، والأنظمة الشيوعية، دفعت الشعوب تحت تأثيرها، إلى السير على وقع الأناشيد الوطنية، مغمضة العيون، نحو الفناء، مثقلة بالأموات والأكفان.
تعلم الغرب من تجاربه المؤلمة مع الاستبداد، وأديان التنقيب في الضمائر… ردَّه إلى رشده، ليس رشده الكامل، فالحماقات البشرية لا نهاية لها، لكن، ثمة ضوابط يستأنس بها. كان من نتائجها التوعية من الحروب العادلة والقذرة على حد سواء.
طوال عقود ما بعد الاستقلال، أدرك المثقفون العرب أنهم مدعون للاستفادة من خلاصة تجارب الغرب المريرة، لاختيار ما يروق لهم منها. دارت النقاشات حول ماذا نأخذ، وماذا ندَع؟! حيرتهم طالت وما زالت، أَخضعوا أسباب تقدم الغرب للتصفية وإعادة النظر، حيث يكون ما يؤخذ منه خالياً من الشوائب الضارة، لا يهمل المادة، والروح، والتراث، والعدالة الاجتماعية، والمعاصرة…مزيج مثالي غير مسبوق. فلم نظفر بالديمقراطية، ولا العلمانية، ولا التكنولوجيا، ولا العلم… ظفرنا بالمعتقلات والمنافي والخيانات… وإذا كنا حصلنا تحت ضغط الحاجة على الكومبيوتر، والإنترنت والهاتف الجوال، فلأنها تجارات رابحة. وها نحن اليوم نتسلى بـ”فيسبوك” و”تويتر”.
فجَّر الربيع المنطقة، ولم يزهر، وانكشف وضع البلاد أمام أمراضها المستفحلة، ومعها ثقافة لم تقدم سوى التردد والمخاوف، ومثقفين انصرف بعضهم إلى الشعب، وبعضهم الآخر إلى تتويج الخيانة، غير أن الأكثر رواجاً صنف من المثقفين وجد أمانه في الحياد، ذلك أنقى، وأبعث على الاطمئنان. ارتكن إلى ثقافةٍ مراوغةٍ ذريعتها التحلي بالعقل، لا بالنزاهة.
ما قدمته الشعوب العربية كان على سوية ما طلبته من حرية، إِن لم يكن أكثر. وسوف يبقى الجانب المؤلم مشرقاً، قائمة المطالب باتت واضحة: الديمقراطية والعلمانية والحرية… لن تبقى رهينة دكتاتوريات مهترئة، ليس لديها ما تقدمه سوى الأكاذيب، وعبادة القادة التاريخيين، وزعماء سيصبحون تاريخيين بالتقادم.