تنحو الدول الكبرى إلى رعاية السلام في العالم، وهي حسب مزاعمها مهمّة يتبرعون بها لصيانة أرواح البشر في الصراعات الدائرة داخل الدولة الواحدة، أو بين الدول المتنازعة من خلال المسارعة إلى عقد اتفاقيات تفرض على المتنازعين حلولاً قسرية، تهدئة لحدّة الصراع الدائر، ومنعاً لانتقاله إلى بلدان الجوار. ما يتوصلون إليه يبدو متوافقاً عليه، لكن لا يطول الوقت على هذا التوافق المُدّعى، حتى يفسح الاتفاق نفسه المجال لهذه الدول في الخلاف على تفسيره، وتعدّد وجهات النظر المحتملة إليه، على النحو الذي يرضيها، اذ لا تهدف إلى السلام، بقدر ما تراعي مصالحها على حساب الخلافات الناشبة، والتضحية بالبشر الذين يريدون تجنيبهم آلامها. النتائج المتوخاة، لا تحصل، الاتفاق أحد مظاهر عطالتها.
هذا ما كانه مآل جنيف واحد، والجنيف الثاني الذي تبعه، وغيرهما من مؤتمرات لا تكاد تعقد حتى تتنكّر الأطراف لما التزمت به. عموماً لم تتحرّج الدول الكبرى عن هذا العبث النشط في مجال حل الأزمات الدولية وتعقيدها، وكأن الاتفاقيات لم تعقد إلا لتفسخ، أو تعرقل، أو تؤول، وغالباً بالاعتماد على صيغة غامضة، الدافع إليها، التظاهر أمام الرأي العام العالمي والأطراف المنكوبة أن مساعي محمومة تبذل، وأن اتفاقاً حصل، ما يبعث آمالاً كاذبة، تبشر بأن الأزمة في طريقها إلى الحل. بينما هي ماضية في سباتها الجهنمي، يحكمها التأجيل. وهكذا من تأجيل لآخر، بينما الضحايا تتراكم، والأوان يفوت على ما اتّفق عليه، وتصبح الحاجة ماسة إلى اتفاق إضافي، لا يوضع موضع التنفيذ، فلا غرابة أن تستولد الأزمة أزمات.
تقترن اليوم الأزمة العراقية الناشئة بالأزمة السورية الراكدة على حالها. كالمعتاد سارعت دول المنطقة والدول الكبرى إلى التفكير بإيجاد مخرج لكليهما معاً، العالقة والطارئة، ما حفّز على التلويح بإخماد الأخيرة الملتحقة بقوة بالمشهد السياسي، قبل أن تتكاتفا معاً وتعلقا معاً في الركود نفسه. وعلى الرغم من الاهتمام الدولي والاجتماعات والتصريحات، عدا المفاوضات السرية، لم يُحرز التقدم المنشود؛ ما يجري في القاعات المغلقة، بعيد عما يجري على الأرض، والجهد الدولي في واد، والأزمة في واد. وإذا كانوا سيتبعون الخطوات الممنهجة التي اتبعت لحل الأزمة السورية، فالحراك الدولي ليس إلا رفعاً للمسؤولية عنهم، والتكريس للزعم القائل بأنهم مكلفون بمصائر العالم، وإن دونما عمل جاد نحو حلول آمنة تنحو إلى تقليل الكلفة الانسانية. هذه العقلية بالذات كثيراً ما وضعت الدول على حافة الخطر، وعرّضتها الى انهيارات كانت بغنى عنها، في حال تهيّأت لها نوايا طيبة. المؤسف أنه كلما كثر الحديث عن النوايا الطيبة، كان لإخفاء أكثر النوايا سوءاً.
يشهد هذا التقارب في مفهوم الاتفاقات انسجاماً وتناغماً بين الروس والأمريكان، ما يسمح للأنظمة المستبدّة بالتصرف على أن الأزمة انتهت، وأن البلاد تجاوزتها وباتت في المرحلة التي ما بعدها، فيصادق حلفاؤها عليها، ويؤكدون بدء العد العكسي التنازلي للأزمة. كذلك تعلن المعارضة على الرغم من التصريحات المتناقضة لأصدقائها والمتعاطفين معها، المتفائلة تارة والمتشائمة تارات على أن ما تعانيه لا يزيد عن نكسة عارضة ستتماثل معافاة منها قريباً. بينما الطرفان يعانيان عجزاً يستفحل كل يوم، يزيدانه سوءاً بعدم التقدم تلك الخطوة الضرورية بالجلوس حول طاولة، وتحمّل أخطائهما القاتلة، والاعتراف بأنهما أوديا بالوطن إلى الخراب، وبما أن هذه الشجاعة غير متوافرة، فالمثول أمام العدالة، هو أقل عقاب لهما.
بالعودة إلى الدول الراعية، ما لم تُغلّب مصالحها على مصالح بلدان عاجزة عن مساعدة نفسها، والامتناع عن الاستفادة من الانقسامات التي تحكمها. يمكن القول إن الأزمة الموعودة بالحل من قبل الأنظمة، ليست إلى انتهاء، بل إلى استمرار، والنكسة العابرة للمعارضة، غير عابرة، بل قائمة وإلى تفاقم.
-
المصدر :
- المدن