للأوضاع الحاضرة جذورٌ في الماضي، لا يستقيم وجودها من دونه، سواءٌ كان انحطاطاً أو ازدهاراً. لا قطع مع الماضي، مهما خالجتنا الآمال بالتخلص منه. وطالما كل لحظة تمضي تتحول إلى ماضٍ، فهو مستمر. لنتخيل رجلاً فاقد الذاكرة، بماذا سيفكر، ما دامت حياته كلها تربض في ماضٍ ممسوح؟ ما الذي يوحيه ماضٍ غير موجود، سوى بالسواد، إن لم يكن بالهباء؟ تُرى، أليس في وسعنا حقن هذا الشخص بماض آخر؟ في الجواب عن التساؤل الأخير، ظهور الماضي الأصلي يهدد الماضي المصطنع، عموماً يلغيه.
الماضي ليس محصناً، فهو مثل أية مادة قابل للاستغلال. أدركت جهات عديدة مفاعيل القدرة على التلاعب به، والتأثير في البشر، فسعت إلى توظيفه بما يخدم توجهاتها وتطلعاتها؛ فأصبح هناك ما يدعى “توظيف الماضي”، وأمسى ساري المفعول لأغراض حالية ومستقبلية.
لا يمكن حرف مسار الحاضر، إذا لم يبدأ التشويه من الماضي. فمثلاً، لفق البريطانيون أدلة تؤكد على تفوقهم الثقافي المبكر، إلى حد أثبتوا أن قدماءهم كانوا مطلعين على الفيض السماوي، ومؤمنين بالثالوث المقدس قبل ميلاد المسيح، كما أثبتوا أنهم قاموا بإبداع ونشر المعرفة في القارة الأوروبية وآسيا، بنقلها شرقاً إلى اليونان، ومن هناك، إلى الهند والصين، لتشكل أساس العقيدة الكونفوشيوسية. كانت هذه الادعاءات لدعم مزاعم روجت تفوق البريطانيين الفطري في العالم. شكل هذا التفوق الطبيعي المزعوم دعماً لحق بريطانيا في الغزو الاستعماري، وكان السند لإقامة الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. بعض هذه الدعاوى شملت فوائدها الدول الاوروبية الأخرى، وساعدت على تمدد الاستعمار، تحت غطاء الاضطلاع بمهمة حمل أعباء العرق الأبيض، في تلقين الحضارة والثقافة والدين إلى شعوبٍ وأعراقٍ كافرة وتحت الحضارة، ما أدى إلى التحكم بها واستعبادها، بحجة عدم قدرتها على رؤية حقيقة الخالق، والدين القويم، واستعصائها على الهداية والتحضر وحدها.
كما طال التزوير علوماً بريئة، فاستغلت الطبقات الحاكمة في المكسيك علم الآثار، وجيرته لمصالح راهنة، بإسباغ المشروعية على سلطة الحاكم في تثبيت روابط تنسيبه بالآلهة، باعتبار العقيدة الدينية والأساطير المصادر الرمزية للنفوذ، ولا يهم إن كانت روابط النسب فعلية أو افتراضية. ترمي العملية إلى إقناع المحكومين بشرعية سلطة الحاكمين، بإسنادها مباشرة إلى “الآلهة”، المنبع الأسمى للسلطة والشرعية معاً. توظيف الماضي لم يتوقف تحت ظل التنازع على مناطق النفوذ في العالم، والمتغيرات المتلاحقة لتوازن القوى، ما أوصلها إلى التلاعب بالخرائط والحدود.
سواء كان الماضي جيداً، أو سيئاً، يلعب دوراُ في إلهام الحاضر، ولا يشترط أن يكون هذا الإلهام رشيداً أو مميتاً، الماضي السيئ قد يكون انعكاسه إيجابياً، كما الماضي العظيم، نركن إليه، فنسترخي، كأن فيه التعويض عن حاضر بليد. هذا لا ينفي الرد على الذين يودون إعدام الماضي. كما لا يقتصر التلاعب به على المزاعم التاريخية والعلمية، إن أكثر ما يخشى منه، وقوعه تحت تأثير نعرات قومية، أو طائفية، أو حتى أيديولوجية، تتبدّى باستنهاض نزعاتٍ متطرفةٍ وغير عقلانية، أو روح ثأرية، تعود إلى عشرات القرون، تهدف إلى النيل من الآخرين بحجج مذهبية، لا تعدو في جوهرها سوى سياسات تستغل العوام لتجنيدهم في حروبٍ غابرة، تجري على أرض الحاضر، لبسط الهيمنة والسيطرة على العقول.
اليوم يبلغ توظيف الماضي حدود الجريمة القصوى، بتمزيق النسيج المجتمعي، وتوظيف البشر في الاقتتال، بإحياء نزاعات تَمُتُّ إلى الماضي، لحساب صراعات الحاضر المهلكة، التي استهلكت أرواح مئات آلاف البشر، أكثرهم من الأبرياء، لتوطيد نفوذ سلطاتٍ جائرة تحكم زوراً وبهتاناً، شعوباً تنشد الحرية والسلام. وضع الماضي في نصابه الحقيقي، ضرورة عاجلة، بالتعرف إليه، لكي لا نكون أسرى لتفسيرات وتأويلات خاطئة، من دون أن نعلم، ولئلا يصبح عرضة للتزوير، وذريعة للقتل الحلال.
-
المصدر :
- العربي الجديد