ماذا يعني الاطلاع على التاريخ، هل ثمّة ضرورة؟ هناك من يقول بضرورته، عدا عن الفائدة، فهو درس وعبرة وتأمّل في مصائر الحضارات والدول والبشر، كما أنَّ هناك سؤال المهتمين بقطار التاريخ، ترى إلى أين تمضي الإنسانية؟ غير أنه لا إلزام في المعرفة، يمكن العيش من دون التعرّف إلى الماضي ولا الغوص في التاريخ. لكنَّ الذين يطيب لهم قراءته وتأمّله، لديهم حجّة إضافية، إنّه يتيح لهم النظر إلى أنفسهم، أي إلى “نحن”.
ثمة جانبٌ يتأمّلونه، يتيح لهم تقدير المسافة التي تفصلنا عن الماضي، وهي مسافة لا تعبّر عن الزمن فقط، وإنما ما طرأ من متغيّرات بيننا وبين عالَمٍ رحل إلى غير ما رجعة، لكن هل رحلَ حقّاً؟ الكثير من التساؤلات يطرحها التاريخ غالباً وليس بالعودة بعيداً، ومعرفة أنَّ ما اجتهد به من سبقونا، قد تحقّق في الزمن الذي نعيشه، ما يُحيلنا إلى ما الذي سنجتهد به تلبيةً لمتطلبات عصرنا؟
فمثلاً، إذا كان الأجداد قد حققوا الاستقلال، وباشروا حراكاً سياسياً كاد أن يحقّق إنجازاً نحو الديمقراطية؛ ألا يملي على الأبناء والأحفاد استئناف مسيرتهم والعمل على تحقيق ما يمكن أن تنعم به أجيالٌ قادمة. هذا يفترض أنَّ كلّ عصر يقدّم إنجازاً حضارياً للعصر الذي يليه، يشمل العلمي والسياسي والثقافي والاقتصادي، وهو ما يميّز العهود التي تقدّم النور، عن العهود التي تترك وراءها الكوارث من دمار وحروب ومجازر وقمع وضحايا.
لو أتيح لنا الاطلاع على الماضي القريب، فالملاحظ تخلّفنا عنه، بما يعدُّ تراجعاً عما أنُجز من قبل، ما أدى إلى حصيلة من تراكمات، أصبحت تركة ثقيلة، عناوينها الرئيسة؛ الفقر والجهل والجوع، ودكتاتوريات تنغل في حياتنا، بات الفساد يشكّل آلية تسيّيرها، لولاه لتوقّفت عن العمل. ما يشير إلى فجوة هائلة بين الماضي والحاضر، يصعب ردمها، فالسلطة القائمة بدّدت ما أنُجز في الماضي، ليس هذا فقط، بل جهدت في منع التاريخ من الحضور، أو حتّى الوجود. ما جعل الحكومات تتسلّط على التاريخ، وكان من مهمّاتها تزويره وتشويهه.
التاريخ الحقيقي محاصر لا يُتداول إلا في أوساط محدودة
ما نعرفه عن التاريخ ليس مجهولاً كليّاً، وإنّما ممسوخٌ على نحو خطير. التاريخ الحقيقي مُحتجز في الجامعات ومراكز الأبحاث، يعمل عليه مؤرخون وباحثون جادّون، وهو ليس بالقليل، وإن كان ما أنتجوه من معرفة به ليس بالمُتناول، لأنّه محاصر، لا يُتداول إلا في أوساط محدودة، وكأنّه للدارسين فقط، لم يتسرّب من مدرجات الجامعة وقاعات البحث إلى الناس، لم ينزل إلى الشارع، إنّه بمعنى ما ممنوعٌ كمعرفة شعبية. لئلا يدرك الناس البون الشاسع بين الماضي والحاضر.
لم يعد التاريخ ما يجري تلقينه في المدارس، ولا ما تزعمه الصحافة الرسمية، أو ما يُستشهد به بشكلٍ عابر، وما يتحامل عليه مثيرو الشغب في البرامج التلفزيونية، يلاحظ في تعمّد انتشار الجهلِ به. ونشر تاريخ جُعل سقيماً، تاريخ من الأهواء والأحقاد، تاريخ جامد وبائس، تاريخ ملعون. ما أصاب بالعدوى ناشطين على وسائل التواصل، فجرى التعليق عليه بخفّة واستهانة، وتعميمه بالشتائم والتخوين، من دون تمحيصٍ ولا تدقيق، على شاكلة الصحافة الشعبوية، ما عوّض عن صحافة صفراء، بصحافة شديدة الاصفرار، طالما الكلام حرّاً بشكل مطلقٍ وطليق، غير مسؤول ينشد الحطّ من تاريخ لم يفصل فيه، ورموز اجتهدت، أصابت وأخطأت، ويعقد محاكماتٍ لها، طالما الاتهامات والأدلة والبراهين مُعدَّة سلفاً، امّا الحكم فالإعدام.
لا أسرار في العداء نحو التاريخ، في البلدان التي تخضع لسلطةِ فردٍ واحدٍ، يحجب الماضي لئلا يُقارن بالواقع، لئلا يبرز التضاد بين ماضٍ صاعد سقط في حاضر منحط. قد يُغيّب التاريخ، أو يُشطب ويُستبدل، أو يُساء إليه، لكنّه ليس كل شيء، ما دام المطلوب تجاوزه وليس استعادته. ما يجب الاطمئنان إليه، إنهم مهما جاروا عليه فهو بأمان، طالما فصوله دارت في الزمن، فلن يضيع. هناك من يبحثون عنه، الحقيقة ضالتهم. أمّا الذين ليسوا بأمان فهم البشر.
يُعتبر التاريخ وعاءً للتجربة الإنسانية، ما يمدّنا بالخبرة التاريخية. الاستئناس به، يعلّمنا أنّه كان في تغيّر مستمر، وإذا كان لنا استئناف أدواره، فلأنَّ الحياة لا تُصنع من فراغ، بل عن وعي، من دون إرغام.
-
المصدر :
- العربي الجديد