داعش النسخة المتقدمة من القاعدة، هيمنة الأصل انتهت إلى غير ما رجعة، إزاء ديناميكية الطبعة الأحدث لها المواكبة لثورات الربيع العربي التي أسهمت بالقضاء عليها. أثبتت مكانتها منذ ظهورها العاصف بقواها الذاتية، ووحشيتها المتميزة، والمغالاة بتطبيق الشريعة الإسلامية بأشكالها المنفرة، وعلى أسوأ وجه. لم تقنع بتصدر ميادين القتال في العراق وسورية، وانتصاراتها السهلة في احتلال المناطق المحرّرة، ومناطق النفط، وإقامة إمارة إسلامية في الرقة، وإعلان لاءاتها؛ لا مساومة، لا تواكل، لا شركاء، لا أصدقاء… بل أتباع.

في غزوتها العراقية الأخيرة التي تمت بتخطيط دقيق وهجوم خاطف، أدى إلى انهيار دراماتيكي للجيش العراقي باختراق دفاعاته وفرار جنوده وضباطه، واحتلال الموصل. لم تحقق داعش هذه القفزة النوعية والبراغماتية، إلا بتنازلهاعن تصلبها، وعدم استفرادها بميادين القتال. شاركت معها في الهجوم الفصائل والعشائر السنية وكتائب الضباط البعثيين. كانت داعش رأس الحربة، وعلى ما يقال أوكلت إدارة الموصل إلى رفاق الدرب. اتفاق الطرفين مرحلي، نوع من المهادنة في حرب اضطرتهما إلى التعاون ضد عدو واحد. التحالف بينهما غير مضمون، والحرب حالياً، تبطن حرباً أخرى، داعش لا ترضى بمن يشاركها السلطة، ولا المتحالفون معها يرضون أن تسرق ثورتهم. وإذا كانت حرباً مؤجلة، فهذا عائد إلى ما سوف يواجهانه قريباً من هجمة معاكسة قد تعضد التحالف بينهما أو تطيحه، ويتحول الأصدقاء إلى أعداء، غير أن داعش استبقت إشكاليات كثيرة قبل أن يحلّ الفراق والخصام.

المفاجأة لم تكن في احتفال التنظيم في حزيران الفائت بإزالة ما أسماه “حدود الذل” بين سوريا والعراق، تلك التي لم يفلح حزبا البعث في إزالتها. كانت الخطوة مقدمة لإعلان “دولة الخلافة” التي وافقت الأول من رمضان، من خلال الإعداد لمشهدية استقاها البغدادي من التاريخ، سواء في ادعائه استشارة “أهل الحل والعقد ومجلس الشورى” باعتبار انها واجب ديني لا يمكن تحمل إثم تركه، أو بمطالبة المسلمين في أنحاء المعمورة وغير المعمورة بمبايعته خليفة، ومعاهدته على السمع والطاعة، والاحتياط من أي منافس على الخلافة ولو أن هناك من سبقه إليها قبل سنوات عجاف، الأفغاني أمير المؤمنين “الملا عمر”، فالبغدادي أحق بها منه لنسبه القرشي، لا يجوز لأمير المؤمنين إلا أن يكون من قبيلة قريش. وفي التعريف بالبغدادي دلالة على نسبه الشريف: “الشيخ المجاهد العالم العامل العابد الإمام الهمام المجدد سليل بيت النبوة عبد الله ابراهيم”.

ترافق الإعلان مع تخلي داعش عن اسمها وإعلان قيام “الدولة الإسلامية”، طموحها لا يخفي التلويح بالخطر القادم، فالدولة الوليدة ما هي إلا نواة لدولة إسلامية لن تستثني في المراحل التالية أية دولة عربية وإسلامية، وربما استعادة ما فقده العرب من بلدان في اوروبا كان لهم وجود فيها.

توافق تجماعات الإسلام السياسي حول هدف واحد هو إقامة حكم الله في الأرض وتطبيق الشريعة في المجتمع. فانتهجت جماعات الإخوان المسلمين بعد سنوات من التجارب والإخفاقات والتردّد، أسلوب الدعوة والقبول بالانخراط في العملية الانتخابية، بينما رأت القاعدة وأشباهها من التنظيمات، أن السبيل الوحيد للوصول إلى السلطة وتطبيق شرع الله هو الجهاد. قد يكون في إعلان خلافة البغدادي تسرع وقصر نظر، يدعمها قدر هائل من الهمجية والدماء. داعش تحفر قبرها بيديها، والخلافة سواء مرّت أو لم تمرّ، فقد أعلنت واكتسبت الحياة، ولو كانت محدودة، والخليفة سيبقى خليفة ولو كان مطارداً، وإذا قتل فهناك من سيخلفه، فدولة الإسلام جرى التأسيس لها، وهناك من سيلتحق بها واقعياً وافتراضياً، مع أن العالم كله ضدها، وأولهم من تعنيهم الدولة والخلافة. الاستنفار عمّ دول المنطقة والعالم، ولم يعد بوسع الأمريكان والأوربيين التعامي عن خطرها الداهم.

أفكار الاسلام القتالي لن تموت، سيكون لها أكثر من قيامة وقومة، للإسلام أكثر من وجه، وأكثر من ولادة وعودة، مرتهنة لطلاب الموت والمجد والعابثين والمغامرين. ما تعلمناه أن الأفكار لا تقتلها الأسلحة، إن لم يتصد لها الفكر والدين معاً، فلن تحظى بالحياة، إنها تتوجّه إلى عقل الإنسان المغلوب والمغيّب، وروحه المهانة، وتوقه إلى العدالة.

الحل ليس هو الإسلام، ولن يكون على التضاد أيضاً مع الإسلام. وسواء طال أم لم يطل الوقت، انزياح هذه الغمامة، سينذر بغيرها، وإذا كانت لن تنفرط، فلأنها خرجت من رحم واقع منكوب ومتردٍ.