لم تنحدر في أي من بلدان “العالم المتقدّم” تفاهة القمع إلى هذا الحد، فأن تلاحق الشرطة الفرنسية الحجاب ولباس البحر “البوركيني” لَمهزلة من بلد عرّف العالم، كما يقال إلى الحرية، وعلى أرضه جرى إعلان مبادئ حقوق الانسان؛ فإذا بها تصبح من الدول التي تصدّر “المنع”، ما يتجاوز سوء الفهم إلى عدم الفهم. إلا إذا كانت العلمانية في فرنسا تتعثر في التفاصيل الصغيرة، بحيث تحتمل حتى الإسفاف. أما إذا كانت حمّالة أوجه، فأحد وجوهها الجائرة يتعيّش على العنصرية ضد المسلمين.

داعي هذا الكلام بات معروفاً، القرار الذي أصدرته نحو ثلاثين بلدية فرنسية، وصادق عليه القضاء الفرنسي بمنع أي لباس “يدل بوضوح على انتماء ديني” أو “لا يحترم العلمانية”. أظهرت الصور رجال شرطة فرنسيين يجبرون سيدة محجبة على خلع “البوركيني”. فالبلديات شنت عليه الحرب “إنها معركة وجود للعلمانية ومحاربة المظاهر الدينية في البلاد”.

توحي خطورة هذا الكلام، أنها معركة حياة أو موت، فعلى أية صورة تتجسّد هذه العلمانية، إذا تحولت الشرطة الفرنسية من مطاردة الإرهاب إلى مطاردة مايوهات الإرهاب “المحتشم”. السخرية تطارد أيضاً ساسة اليمين العنصري الفرنسي الذين رفعوا راية الالتزام بمبادئ الجمهورية!

“تشوب العلمانية الفرنسية عنجهية لا تعترف بثقافات الشعوب الأخرى”

ولئلا يُعتقد أن الحضارة تمضي في هذا الاتجاه الضاغط على تحرير المسلمين من الملابس، فالغرب لم يصب بهذه اللوثة، فالإجراءات الأميركية والإنكليزية والسويدية والكندية والاسكتلندية تشجّع المسلمين على العمل في جهازي القضاء والشرطة، وإن كنّ يرتدين الحجاب، ما جعله جزءاً من اللباس الرسمي المعتمد، في تأكيد على الرغبة في إدماج المسلمين في المجتمعات الغربية، لا تمييز المسلمات عن غيرهن من النساء.

اذا كانت العلمانية الفرنسية سباقة إلى النضال ضد “الرموز” الإسلامية، فـ”العلماني” رفعت الأسد سبق عتاة العنصريين الفرنسيين. في بداية الثمانينات من القرن الماضي، أرسل كتائب المظليات إلى شوارع دمشق، تحت شعارات تقدمية، وانتزعن بالقوة حجاب النسوة، بهدف نقلهن من بؤرة التخلّف، وإطلاقهن إلى فضاء الحرية.

هذه الخطوة وغيرها بررت للتعصب الديني المتزمت والأعمى دعاواه المتشددة. مأثرة قائد سرايا الدفاع توجب على دعاة العلمانية الفرنسية القحة تكريمه في عاصمة النور، طالما أنهما يتشاركان علمانية واحدة!

من التفصيل “البوركيني” الصغير، يبدو الاندماج والذوبان، ليسا قضية تتم بقرار من البلديات أو القضاء او مزاودات اليمين العنصري، إنها أبعد من أن تترك لسياسات التفرقة؛ فالمنظومات الثقافية لا تتغير بالإجبار، وليسأل الفرنسيون أنفسهم كم من الزمن انقضى حتى حصلت المرأة الفرنسية على حق التصويت، وأصبح يحق للفتاة أن تكون حرة بجسدها؟

تشوب العلمانية الفرنسية عنجهية لا تعترف بثقافات الشعوب الأخرى، والأبسط منها حق البشر في ما يلبسون أو يخلعون. وحتى لو واصلت شططها، فلن تعيق تقدم العلمانية الحقة، لكن يُخشى تشويهها، بما يمهد لاعتبارها خطراً حتى على نفسها.