قبل الثورة، انتهج النظام خطة إلهاء الناس بالمسيرات والمهرجانات، إما كترفيه عن النفس، وإما بتحريض المشاعر على الابتهاج سواء بلعبة كرة قدم، أو بحفل غنائي مجاني، أو بفعالية ثقافية تسبح بحمد الرئيس شعريًا. ما أدى خلال مسيرة طويلة إلى تحويل الانتخابات إلى مناسبات سعيدة، فيدبك المنتخبون كأنهم في حفلة عرس. فالشعب السعيد لا يطرب إلا بالرقص والغناء. هذا ما يراه المراقب من بعيد، بشرط أن يجهل حال الشعب ومذابح النظام. بالنسبة لأجهزة الدولة، لا بد أن تعلن عن فرحتها، هكذا الأوامر، بابتكار شيء لافت مهما كان سخيفًا وتافهًا، طالما النمط نفسه هو الساري. في الشارع بمجرد ما تعلو الأصوات بهتافات الروح والدم، تنتشر سيارات الدفع الرباعي وتتنافس على الزعرنة والإثارة بالزمامير والأغاني الوطنية.

أضيف إلى تلك المظاهر على مدى السنوات العشر لا سيما مؤخرًا عراضات من نوع مختلف تضم المغلوبين على أمرهم، من الشريحة الأكبر من الشعب، وفي ازدياد مستمر، بدأت تكبر في المناطق الموالية، فنتائج انتصارات النظام تمثلت في أرتال السيارات وطوابير الغاز والخبز والوقود، سلاسل من البشر تعقبها سلاسل من البشر وكأنما إلى لا انتهاء. أما أزمة الكهرباء، فشاغل الناس في الحر والبرد.

مهما علت أصوات الناس بالانتقادات عاليا في وسائل التواصل الاجتماعي، فالنظام قرر أن يغفر لهم انتقاداتهم، على أن يعقبها اعتذار يستثني رأس النظام والعائلة المقدسة، والدوائر اللصيقة به، ما منح فسحة للناقمين من سوء أحوالهم التي لن تستقيم، بتفريغ شحنة الغيظ والغضب، بتمرير انتقادات قاسية، ثم بالعودة عنها (حادثة المذيعة وقارورة الغاز) كانت لافتة بصراحتها، وكانت غير لافتة بالرجوع عنها، فقد كان النظام من قبل يكلف الممثلين بأداء هذا الدور للتنفيس عن الفساد وتجاوزات أجهزة الأمن. أما الآن فللتنفيس من قبل متضررين فعلًا، إذ إن التمثيل لا ينفع على أرض الواقع.

ومع أن الاعتذار أثار التساؤلات من الموالين والمعارضين، وإن اتفق الجانبان على مرارة الوضع، لكن المعارضين لم يخطئوا دلالاتها الرهيبة، ولم تخل من وجهة نظر قوية، وهي تأذي المرء مما يصيبه شخصيًا، ويغفل عن آلام الملايين والمعتقلين وأهالي الشهداء والمهجرين وخراب بلد بكامله، ألم يبارك للنظام آلة القتل؟ وفي هذا مفارقة مؤلمة فالثورة والحرب لم يكونا حدثين عابرين، إنه حدث واحد استمر عشر سنوات، ولم ينته بعد، وما زال هناك حصار وتجويع وتهجير، وقصف وتمزيق للبلد، وفساد ضارب في جميع مفاصل الدولة، وأثرياء حرب، ولصوص جدد، وتدنٍ ثقافي مرعب، وانحطاط أخلاقي، وكذب من القمة إلى السفح… ولا حساب.، إذ من يحاسب من؟ إن المسؤول عن هذه الكارثة الإنسانية، قد أبلغ الشعب بعد الانتخابات على لسان المستشارة؛ النظام غير مسؤول عن تردي الوضع المعيشي، إذا كنتم قد دافعتم فعن أنفسكم، وعليكم تدبير أموركم… لمعلوماتكم، الرئيس لم يعدكم بشيء. الخلاصة؛ مهمة الرئيس كشف العملاء والرماديين والتصدي للمؤامرة الكونية، ولن يشغل وقته بالخبز والغاز والكهرباء…. إلخ. باتت الدعوة إلى الهجرة أمرًا مفروغا منه ومن جميع الشرائح، فالوضع المأساوي طارد للناس، ويصب في تحقيق الانسجام بين أفراد الشعب، وتحويله إلى شعب مطيع لمجرد أنه ليست لديه القدرة على المغادرة، ولا على النهب.

إيقاف هذا التدهور، لا ينفع معه قلب الحقائق رأسًا على عقب، ولو أنه أصبح سائدًا، وترسيخ الأكاذيب مستفحلًا. ولو كان فيه محاولة لإلهاء الناس عن آلاف التساؤلات، لكن لو لم تكن هناك أزمات لاخترعها النظام، وكي نعرف حقيقة ما يجري فعلًا، لا بد من فصل الأزمات الحقيقية عن الزائفة، وبالنسبة إلى الحقيقية، تقدير حجم المبالغة فيها.

يستحيل أن يتحدث اثنان من السوريين في الداخل أو الخارج إلا عن الخبز والغاز والبنزين وارتفاع أسعار المواد الغذائية والاستهلاكية، هناك إجماع واتفاق حول مرحلة التردي التي انحدر إليها العيش اليومي، لم يجمع الشعب على غيرها من قبل، باتت ترسم مصيره الغامض. هذا ما يريده النظام.

لا نأتي بجديد، هذه اللعبة اتقنتها الحكومات كلها بأنواعها كلها، إلهاء الشعب بالأزمات، تتميز الدول الشمولية عن غيرها في جعلها دورية، يستحيل أن تنجو دولة دكتاتورية من استغلال أزمات أو تلفيقها. هذا أسلوب معتمد، طالما أن التحكم بلقمة العيش تحكمٌ بالبشر. ومثله كل شيء، ودائما الهدف ترويض الناس، فلا نعتقد أن الفن بريء، ولا الألعاب النارية، وكرة القدم، والتمثيليات، والأفلام السينمائية، والمناسبات الثقافية، والأعياد الوطنية… كلها يجب أن تصب في برنامج الطاغية الاستبدادي، تلك هي الحرب التي تشن اليوم على السوريين من نظام لا يتورع عن إفقارهم، واستغلال جوعهم، فالذي قتل وشرد، يستثمر في التجويع أيضًا.

في روما القديمة اشتهرت هذه العبارة المتداولة في اللاتينية: “أعطهم خبزًا وألعابًا”.

لكن ماذا إذا لم تعطهم حتى الخبز، فقط الألعاب!!