إذا كنت لم أنتسب لحزب، أو لم تكن لدي اهتمامات سياسية، فلا يعني هذا أنني لم أتأثر بشكل مبكر، بما يجري على الساحة السورية والعربية، وفي ما بعد بالدولية، لكن كان لتوجهاتي الأدبية الأولوية على ما عداها، وستأخذني “الرواية” إلى التاريخ والسياسة، وإلى مسالك أخرى متعددة ومتنوعة. كل ما كان يدور في ذهني، هو كتابة رواية على علاقة بالواقع، إن لم نكتب عن الحياة التي نعيشها، فعن ماذا نكتب؟ مهما كانت الخيارات، فلا بد أخيرًا من مواجهة، كيف نكتب، ولماذا؟
في العقدين الأخيرين من القرن الماضي، كان “الواقع” المتردي مكشوفًا، لا يمكن تجنبه والكتابة عن واقع متخيل، لو فكر الكاتب جديًا في مقاربته، سيأخذه لا محالة إلى القمع والفساد، وكان محظورًا الاقتراب منهما.
بلغت محاولاتي في الكتابة، بضعة أعمال توزعت بين الرواية، والمسرح، والقصة القصيرة، دونما أمل بنشرها. كان العمل على تنقيحها مضيعة للوقت، فلم تعد الكتابة بالنسبة إلي، إلا محاولات في التجريب لا جدوى منها.
كنت هاوي أدب في عزلة، بينما كان القلم يذهب بي إلى الواقع الممنوع، وقبضة السلطة تزداد إحكامًا على الأنفاس. تهيأ لي، أن لا خيار إلا في الهروب إلى التاريخ، بوضع الرواية في مناخ زمن مضى؛ تجنبًا لمنع الكتاب في طور المخطوطة من رقابة الاتحاد. اكتشفت في ما بعد أنني ذهبت إلى ما هربت منه.
في ذاك الوقت، خامرتني قصة عن حب مستحيل، فخطر لي إذا كانت أحداثها تجري في الماضي، فلا عقبة في تمريرها من الرقابة. أما العقبة، فهي أنني لم أكن مغرمًا بالتاريخ. بالمصادفة البحتة، وأنا أبحث لا على التعيين، وقعت على حادثة دخول المفوض السامي الفرنسي “بيو” إلى دمشق، وكان استقبالًا باردًا، المحلات مغلقة، والشوارع خالية، استقبال المفوض كان بإضراب.
جذبني المشهد، كمطلع لفصل في الرواية، تطلبت استعادته من الماضي، الذهاب إلى زمانه ومكانه. تخيلت موكب المفوض السامي، يتقدم من جسر فكتوريا، دورانه في ساحة المرجة، ثم إلى الصالحية فالمفوضية. هذا المطلع وما تلاه، احتاج إلى كمية كبيرة من المعلومات، خريطة دمشق في ذلك الوقت، توزع معالمها الرئيسة، الشوارع، والأزقة، الأسواق، والمحلات، والملاهي، والفنادق، والمسارح، والمقاهي، بعضها كان ذا طابع فرنسي. كما استدرجني الحدث الروائي إلى الحالة السورية تحت الانتداب، الوجود الفرنسي، الوضع السياسي، الأحزاب الوطنية وخلافاتها، المجتمع وما يعج به من أفكار دينية ونهضوية في أواخر الثلاثينيات من القرن الماضي، عشية الحرب العالمية الثانية، كانت سورية تغلي بالمظاهرات تطالب بالاستقلال. لم تكن سورية وحدها في حالة اضطراب، بل العالم كله.
بالعودة إلى المراجع التاريخية، وكانت نادرة، عدا أنها مبعثرة. من حسن حظي، كان كتاب فيليب خوري “سورية والانتداب الفرنسي”، قد تمت ترجمته مؤخرًا، وكان متوفراً في مكتبات بيروت، ما وفر عليّ الكثير من الجهد، فهذه الفترة لا يمكن فهمها من دونه، على هديه بحثت عن المراجع التي أشار إليها وزدت عليها، فتجمعت لدي مكتبة خاصة بتاريخ سورية ضمت عشرات الكتب.
ما نعرفه عن تلك الفترة، من الحكم الوطني قبل الاستقلال وبعده، حسب ما تلقيناها في المدرسة، كان ضئيلاً، في الواقع يكاد يكون لا شيئاً، كان إهماله متعمداً بصرف النظر عن المناهج الدراسية، لم يكن مبذولًا كما هو مفترض، المراجع قليلة لا تزيد عن جهد شخصي، وأسيرة رسائل الماجستير والدكتوراه في الجامعات، ولم يكن مشجعاً عليها، إذ لا مبرر لاستعادة بدايات الديمقراطية السورية، أو الاطلاع على سياسات الحكومات الوطنية، كان التجهيل بها ممنهجاً، بعدما وسم العسكر سياسيي العهد الوطني في بلاغاتهم الانقلابية بالخيانة والعمالة… سار على خطاهم حزب البعث، والأحزاب القومية واليسارية من الشيوعيين وغيرهم. كان عهداً بائداً اتفق على دفنه، بالتخلص من هذا التاريخ “المشين”، وترحيله محمّلاً بجميع الموبقات السياسية من رجعية وبرجوازية وإقطاع واستغلال.
قادني مشروع الرواية إلى كتب “السيرة السياسية”، كان أهمها المجلدات الثلاثة لمذكرات رئيس الوزراء خالد العظم، وكانت ممنوعة في سورية، ولا حاجة للقول إنها كانت مذكرات فريدة وكاشفة، حتى بدا من الغرابة أن يكتبها سياسي سوري، كانت حافلة بالأحداث وبالتفاصيل الدقيقة، والتفكير السياسي بعيد النظر، كما لم تخلُ ذكرياته من طيش الشباب في مجتمع محافظ.
عموماً، تتميز المذكرات السياسية، بالمقارنة مع المراجع التاريخية، في حال اعتمدنا النظر الروائي، أن المذكرات تستخدم صيغة الأنا في السرد، فنطلع على السياسة كما عاشها صاحبها، وخاضها علنًا وفي الكواليس، كفاعل فيها وشاهد عليها، بينما كتب التاريخ، يأخذ السرد فيها طابع المشهد البانورامي، تعتمد المراجع، ولا تخلو من وثائق وشهادات ومذكرات عن تاريخ، تبدو كأنها العليمة به. طبعاً، لا يمكن الأخذ بالمذكرات بشكل مطلق، لا بد من إجراء التقاطعات مع غيرها، فالسياسيون معرضون للنسيان، وهفوات الذاكرة، والمبالغة في دفاعهم عن سياساتهم، وإخفاء ما يضيرهم وما ارتكبوه من أخطاء ومخالفات، وربما أكثر، لكنها تقدم زاداً وفيراً يمكن الاستفادة منه والاستئناس به.
تنحو المذكرات السياسية غالباً، إلى التركيز على سيرة صاحبها والمناصب التي تقلّدها، والدفاع عن السياسات التي انتهجها، يقدم من خلالها مادة تاريخية، أشبه بقصة حميمة عن تطلعاته الوطنية ووسائل تحقيقها، ما يحيلنا إلى طبيعة السلطة واللعبة البرلمانية، وتوجهات الأحزاب، ومفهوم الحريات، والتذرع بالدستور، ومراعاة القوانين… إلى الفساد من وساطات ومصالح… وقد تتطرق للحياة اليومية وأساليب العيش وأوضاع الناس.
في المذكرات صادفت شخصيات ذلك العهد: هاشم الأتاسي، شكري القوتلي، خالد العظم، فارس الخوري، لطفي الحفار، جميل مردم بك، فخري البارودي، تاج الدين الحسني، رشدي الكيخيا، معروف الدواليبي، صبري العسلي، سعيد الغزي، عبد السلام العجيلي….
وصادفت أيضاً الشخصيات التي لعبت، سواء كانت تدري أو لا تدري، دور المؤسس لنظام دكتاتوري، ولم تتنبه لخطر العسكر، مع أن من بينهم عسكريين، وسياسيين، ومفكرين، ومنظرين: ميشيل عفلق، صلاح الدين بيطار، أكرم الحوراني، حسني الزعم، أديب شيشكلي، سامي الحناوي…
المثير في السير السياسية المبكرة، اختلاط الذكريات الشخصية، والخواطر والأحداث الاجتماعية، ما يشهد بعوالم حية وحيوية، وطموحات سياسية من دون شعارات ديماغوجية، ما يحفزنا على أن نعرف وأن نفهم، والرغبة في التعرف إلى عصر مغيّب. ليس من باب أن التاريخ يمتلك الجاذبية، ولا الإغواء فقط، وإنما قراءته أيضاً، بالمقارنة مع واقع سورية الحالي، ونظام شمولي رثّ بشكل مروّع، طوال زمن امتد نصف قرن، استأثر به مسؤولون، وأحزاب وسياسيون ومثقفون وصحافة، وبالدرجة الأولى الأجهزة الأمنية، كان اللغط حول بناء الاشتراكية قد عوّض عن السياسة، وإحكام القبضة على الرأي كتم أصوات الناس، ثم إخفاء الهزيمة تلو الهزيمة، فالتخلي عن الاشتراكية، واختلاق الإرهاب والسعي للقضاء عليه، فمجزرة حماة لتأديب السوريين، ثم التفاهم الإستراتيجي مع إسرائيل، وخسارة الجولان، إلى أن جاء الربيع العربي، فانشغل النظام بحرق سورية وتدميرها.
بالنسبة إلينا، نحن الذين عاصرنا الحكم الشمولي، تبدو لنا سورية في كتب المذكرات، عالماً آخرَ، مهما اختلفنا معه، وكأنه ينقصه بطش المخابرات، ومجلس للشعب، لا صوت له سوى الخنوع، ورئاسة امتلكت الوطن والبشر بحكم الوراثة. ما يُخلّف في داخلنا المرارة، في ذلك البون الشاسع بين رجالات العهد الوطني، كانوا رجال سياسة، ورجال دولة، وليس طغمة من البلطجية، والزعران، والشبيحة، استباحت سورية بالنهب والقتل.
ولا بد نلاحظ أن النظام طوال عهده، لم يتجرأ رجالاته، من طبقة الرئاسة أو طبقات المسؤولين على كتابة مذكراتهم السياسية. لن نسمع منهم أو عنهم، إلا يوماً ما من خلال الشهود في المحاكم الدولية وربما المحلية، إذا أدركتهم العدالة قبل الهرب أو الموت.
ساعدتني السير السياسية، والمراجع التاريخية على إنجاز روايتي الأولى “موزاييك – دمشق ٣٩”، كذلك “تياترو ١٩٤٩”، و “صورة الروائي”، وإذا كنت راضيًا عنها، فلأنها من حيث لا أدري، رسمت الخط الذي سيقود رحلتي في الرواية، وكانت في بعض مراحلها، أوسع من سورية في انتقالاتي إلى مصر، والعراق، وفلسطين، كان من آثارها، تحديد الزمان والمكان الروائي، ومع أن التاريخ والسياسة لم يستأثرا برواياتي، تعاملت معهما على أنها عوامل فاعلة ومؤثرة في العصر والبشر، كان في إغفالها تزييف للرواية والحياة معًا.
منح التاريخ لرواياتي الخلفية التاريخية، لكن المنحة الأكبر كانت الخوض في مصائر البشر في معمعة الزمن، وإدراك أن السياسة ليست على عداء مع الأدب، طالما أن السياسة من نسيج الحياة.
-
المصدر :
- العربي القديم