لا تخلو العودة إلى الماضي أحياناً من بهجة، وتكون أحياناً أُخرى غير سارّة، وربما مزيجاً من الاثنين. ماذا إذا كانت العودة إلى ما يقرب مئة عام من القرن الماضي، وأن تكون العودة من باب الكتب، كالرواية والفكر. ولقد كان في العودة إلى ما نُشر في أميركا في عشرينيات القرن الماضي، ما كشف عن الكثير من الأدب الرائع، الذي تم إرساله إلى سلّة المهملات. المثير أنها وفرت نظرة عميقة حول القضايا الأميركية الملحّة الحالية، فمن الفساد الرئاسي الواسع، إلى الاشتباكات حول سياسات الكحول والمخدّرات، كذلك قضايا العِرق، ما شكّل التحدّي الأكبر والأكثر انتشاراً حينها، أنها ما زالت محتدمة إلى اليوم.
بعد فترة وجيزة من أهوال الحرب العالمية الأولى، وما خلّفته من تشاؤم. قدّم جيمس روبنسون في كتابه “صناعة العقل” (1921) إجابات متفائلة عن أسئلة مطروحة في الرأي العام، عبّر عنها بالقول: “لدينا المعرفة والذكاء والبراعة والموارد المادية المتاحة لصنع عالم أكثر عدلاً بكثير من هذا الذي نجد أنفسنا فيه”، سرعان ما أحبطت الوقائع هذه الفكرة، فالكساد الكبير الذي كان يلوح في الأفق، لم تنج منه أميركا، الذكاء ليس كافياً، لم يستطع التنبّؤ به.
لم تكن العشرينيات مطمئنة، التقدّم في العديد من المجالات، لم يجعل الناس يتخلّصون من الشعور بأن المسائل الاجتماعية لا تجد حلولاً جذرية، جعل البلد قاصرة عن مواجهتها.
الرواياتُ لا تتنبأ لكنّها تعرف ما تعاني منه الشعوب
ففي رواية “فتاة سيئة” (1928) للروائية فينيا دلمار، وكانت حكاية تحذيرية عن حياة الطبقة المتوسّطة الدنيا، طرقت موضوعات محظورة في الجنس قبل الزواج كالحمل والإجهاض، ما اضطر مدينة بوسطن إلى منعها. صحيح أن ما كان محظوراً لم يعد كذلك، لكن ما زالت هذه الموضوعات مطروحة وحولها انقسام كبير.
بينما تناولت رواية إدنا فيربر “كبير جداً” (1924) حياة شابة ذات مهارات عديدة، تطمح لحياة أفضل، بواسطة الفن والثقافة، وبدلاً من ذلك، تنقلب حياتها وتفقد حلم الانخراط في مسار مهني فني، كان من شأنه أن يؤدّي إلى سعادتها، لكن العالم المتقلّب غير المستقر اقتصادياً، سيحطّم طموحها. كذلك في رواية “عابرة” لـ نيلا لارسن تتمركز العنصرية قضية أساسية يعاني منها السود، كانت عقدة تتّسع وتتعمّق وتتشعّب، أدّت إلى ترابط العرق بمواضيع كثيرة أُخرى، لا سيما المكانة الاجتماعية والجنس والثروة.
بينما الحاصل على “جائزة نوبل”، سنكلير لويس في روايته “بابيت” (1922)، وكان الأكثر شهرة في زمانه، فسوف يبشّر بتدهور الحلم الأميركي وعدم جدواه، وإذا كان يساعد، لكن على الحلم فقط. بينما هجا إلمر رايس في مسرحيته “الآلة الحاسبة” (1923) الحياة المنشودة، التي سيتحوّل البشر فيها إلى أرقام، ما يجعل المستر “زيرو” بطل المسرحية يدرك المأزق العالق فيه، لقد أصبح آلة في عالم آلي. فالحلم الأميركي لم يحافظ على موقعه، والبشر أصبحوا أرقاماً.
في العودة عربياً إلى عشرينيات القرن الماضي ما يشي بصورة مغايرة. كانت الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، قد بدأت بتقاسم بلاد الشام الخارجة من هيمنة “الرجل المريض” لتسقط تحت سيطرة الإنكليز والفرنسيين، ما أحبط قيام الدولة العربية في سورية، وآمال الاستقلال الوطني، وإذا كانت الكتب التي صدرت تدور حول النهضة المرجوّة، أسهم فيها كبار الكتاب والمصلحين كالكواكبي ومحمد عبده والأفغاني وشكيب أرسلان وسليم خياطة، لكن لم يدُر بخلدهم أنّ القادم بعد الاستقلال، هو انقضاض العسكر على آلة الحكم، بموجب الهدف نفسه؛ النهضة، يشكون من تباطئها، وبدعوى حرق المراحل، سوف يفلحون في ما أخفق الاستعمار فيه، فالتقدّم لم يكن مفيداً في الزمن الاستعماري، وسوف يعوّضه الضبّاط التقدميّون باستبداد ما زالت دول المنطقة تعيشه يوماً بيوم.
ليس أن الروايات والكتب تتنبأ، وإنما في أنّ أي عصر يطرح إشكالات، إن لم تواكبها متغيّرات، يرزح البشر تحت وطأة الجمود، وطالما لا حل جذرياً، تتحوّل إلى موضوعات دائمة، تعاني الشعوب منها. يعبّر عنها المفكّرون ويحذّرون من مآلاتها، لكن هذا لا يعني أن هناك من يسمع لهم، أو يحاول تدارك مخاوفهم. وربما في المشكلات التي تراكمت خلال ما يزيد عن مئة عام، وقد تدوم عقوداً أُخرى، مهما بدّلت أشكالها، لا يمكن تجاوزها، طالما الحياة تمضي، محمّلة بها.
-
المصدر :
- العربي الجديد