تصوّرُ أفلاطون للملك الفيلسوف، في كتابه “الجمهورية”، كان مستحيلاً. لم يتحوّل إلى حقيقة أبداً، لكنّه كان الأكثر انسجاماً مع شخصية الإمبراطور ماركوس أوريليوس، الذي حكم الإمبراطورية الرومانية عقدين من الزمن. ومن المستغرب أن أوريليوس لم يعتبر نفسه فيلسوفاً، وإنِ اعتبر نفسه تلميذاً لأفلاطون، وشارحاً لأفكار غيره من الفلاسفة أيضاً، وترك كتاباً، بعنوان “التأمّلات”، يحتوي خواطره، واعتُبر من الكتب الخالدة. لم يُخفِ أوريليوس أنه كان هاوياً للفلسفة بالمصادفة، مثلما أصبح إمبراطوراً بالمصادفة، بزواجه من فاوستينا، ابنة الامبراطور أنطونينوس، فوَرِثَ العرش. وكان لموتها أكبر الأثر في نزوعه إلى الفلسفة.
شهدت الإمبراطورية الرومانية في عهده الكثير من الحروب، والمؤامرات، والاضطرابات. واجتاحتها أيضاً الكوارث الطبيعية من فيضانات، وهزّات أرضية، وزلازل، وأوبئة، كان منها وباءُ الطاعون. خاض أوريليوس حروبه، وانتصر على أعدائه في معظمها، إن لم يكن كلّها، وأنقذ الإمبراطورية الرومانية من أخطار مُحدِقة، خلّفت مآسيَ وفواجعَ تركت في نفسه جروحاً عميقة. واستطاع، في خضمّ المعارك، تدوين بعضٍ من تأمّلاته، وكانت أشبه بمفكّرة لم يَغفل عن كتابتها في جميع الظروف والأحوال، في الجبال والسهول وأعماق الغابات، وأحياناً في قصره.
قد تصنع المِحَن رجالاً، وربّما أباطرة، لكنّها لا تصنع الفلاسفة. فالتاريخ لا يعجّ بهم بقدر ما يعجّ بالمقاتلين. لذلك يبدو أوريليوس، إمبراطور المصادفة، استثناءً فريداً، لا سيّما أنّ تفلسفه ذا الطابع الرواقي كان نزوعاً شخصياً. وحسب قوله؛ بمقدور كلّ إنسان أن يكون فيلسوفاً في حياته الشخصية والعامة، إذا كان يستفيد من المصائب والآلام أكثر ممّا يستفيد من النِّعَم والأيّام السعيدة. فالحياة مدرسةٌ للتجارب والمِحَن، لا ينجح فيها إلا الشخص الذي وطَّن نفسه على تحمّل نوائبها وآلامها.
ماذا تقول عقيدة هذا الفيلسوف الرواقي؟ إنّ علينا أن نعرف التمييز بين الخير والشر، لأنّ الخير بالنسبة إلى الإنسان هو ما يجعله نزيهاً، منصفاً، معتدلاً، شجاعاً، حرّاً. أمّا الشر، فهو ما يثير القيم السلبية المضادّة لهذه القيم الإيجابية.
قد تصنع المِحَن رجالاً أو أباطرة، لكنّها لا تصنع فلاسفة
لم يتردّد أوريليوس في وصف أسلوب الحياة الصالحة، وقدّم النموذج الأعلى الذي ينبغي احتذاؤه، ووضعه نصب أعيننا دائماً لكيلا نضل: انتبه كي لا يفسدك الآخرون، أو تفسدك مباهج الحياة ومناصبها وثرواتها. حافظ على نفسك بسيطاً، طيّباً، خيّراً، عطوفاً. لكنْ، كُنْ حازماً في أداء واجباتك. وناضل من أجل ان تبقى نقيّاً.
يقصد أوريليوس من نصائحه أن الحياة مدرسة للتجارب المريرة، لا ينجح فيها إلا الشخص الذي وطّن نفسه على الخوض فيها وتحمّلها، والتعلّم ممّا يؤذيه، أكثر مما يسعده. وينصح بالاعتكاف من وقت الى آخر من أجل تأمّل حياتنا، وتصفية نفوسنا من الشوائب، وتذكّر المبادئ الفلسفية التي تقودنا، أو ينبغي أن تقودنا. وهذا الاعتكاف ليس من الضروري أن يحصل في برج عاجي، أو عبر العزلة في الريف، أو في منتجع في أعالي الجبال، أو على شاطئ البحر، بل يمكن حصوله في خضمّ الحياة اليومية؛ يكفي أن نخلو بأنفسنا ساعة من الزمن، أو أقل، لنتأمل فيما فعلناه، وما ننوي فعله، لنراجع أنفسنا، بل ونحاسبها.
ما هي السعادة؟ إنها تحقيق ما ترغب فيه طبيعتنا البشرية. وكيف يمكن الوصول إليها؟ عن طريق تبنّي العقيدة الفلسفية، في السير على هُدى تساؤل أخلاقي: “هل صنعتُ شيئاً من أجل الصالح العام؟ إذن فقد تلقّيت أجري. لتكن هذه دائماً قناعتك ولا تكفّ أبداً عن صنع الخير”. فالأخلاق الرفيعة هي ثوابٌ في ذاتها، كالجمال الذي هو جمالٌ في ذاته، لا يحتاج إلى غَرام ولا هُيام. ما يعود بنا إلى الأصل في فكر الفيلسوف الإمبراطور، وهو الاكتفاء الذاتي والاستقلال عن العالم الخارجي، فلا ينتظر الإنسان مدحاً ولا تملّقاً.
تجلب سيرة ماركوس أوريليوس وفلسفته نظَرَنا إلى عالم اليوم، عالم يحكمه ويتحكّم به رؤساء وملوك وقادة وديكتاتوريون وضبّاطُ انقلابات وفاسدون ورجال عصابات، كلّ منهم يطمح إلى تشييد إمبراطورية، ربّما كانت إمبراطورية المخدّرات أو الدعارة، أو الجريمة، لا شيء مستثنى. فالهوَس بالإمبراطوريات مستشرٍ، ما دام لكلّ من هؤلاء فلسفة، ليست سوى تصفية رفاق الدرب، وقتل الخصوم والمعارضين، وقمع البشر، أو استخدامهم لمآربه. مناورات السياسة ومساوماتها مبطّنة بالدجَل والمراوغة والكذب والتحايل. إنها فلسفة مجرّبة، أوصلت الكثيرين إلى ما يطمحون إليه، ولم تكن إلّا خطوةً إلى سلطةٍ ما، قد تؤهله ليصبح إمبراطوراً.
إذا دقّقنا النظر إلى ما يشبه الفلسفة، وإن كانت بلا أخلاق ولا مبادئ، فلا بدّ أن نلاحظ ما يكمن وراء نجاحاتها في بلدان العالم أجمع: إنه الفساد. ماركوس أوريليوس عمل للفساد حساباً في عصره وعصرنا، واعتبره شرّاً مستطيراً، وليس قدَراً لا يُقاوم: “حيثما أمكن الإنسان أن يكون، أمكنه أيضاً أن يعيش حياة صالحة. فإذا كان يعيش في قصر، بوسعه أن يعيش في القصر حياة صالحة”.
ليس من نوع المديح، بل الاعتراف، قول أرنست رينان: كان يوم وفاته مشؤوماً على الفلسفة وعلى المدنية.
-
المصدر :
- العربي الجديد