في منتصف الخمسينيات لوحظ أن الانقلابات قد أصبحت من التقاليد السياسية المعتمدة في تداول السلطة في العالم العربي، وباتت بمثابة الدخول إلى التاريخ فوق ظهور الدبابات على إيقاع هدير الطائرات.

فالانقلاب السوري الأول استُقبل بحفاوة شعبية لمجرّد الاعتقاد أن سورية لن تلتحق بالعالم بطريقة كلاسيكية، بل بأسلوب دراماتيكي، لا سيما أن قائد الانقلاب ظهر بالمونوكول، متأبطاً عصا الماريشالية، وضرب بيده على الطاولة معلناً أن الهدف استئصال الفساد، بينما الانقلاب الثاني استهدف استئصال الدكتاتورية، والثالث إقامة حكومة ديمقراطية، والرابع تحرير فلسطين، والخامس إقامة الوحدة مع العراق، والسادس الوحدة مع مصر، والسابع تحقيق الوحدة والحرية والاشتراكية دفعة واحدة … طبعاً ليس بهذه الدقة؛ أغلبها كان يجمع بين أغلبها.

لم تحز الانقلابات الخاسرة دوماً على القبول إلا بعدما منحها الانقلاب المصري عام 1952 بُعداً تحررياً فعلياً من الاستعمار والاقطاع. فأصبحت “ثورة 23 يوليو” جواز المرور في حرق المراحل. عدم الأخذ باللغة الانقلابية كان مديناً لبصيرة قائد الانقلاب البكباشي جمال عبد الناصر، فالانقلابات السورية وقبلها العراقية كانت تراوح في وعودها، عالقة في الصراع بين الضباط، لم تنج منه، أو تتقدّم خطوة إلى الأمام.

حظيت “الثورة” بتأييد كاسح في مصر، وفي ما بعد في البلدان العربية، ما ذهب بالمتحمسين إلى ترسيخ اعتبار الانقلاب المصري ثورة شعبية، أليس الجيش من الشعب؟ الخطوات الناصرية المضادة للاستعمار، ومحاولات تحقيق العدالة الاجتماعية، شكّلت رصيداً فذاً لعبد الناصر الذي أصبح واحداً من قادة قوى التحرر العالمي في العالم الثالث.

بعد العدوان الثلاثي على مصر، بات سلوك عبد الناصر مقلقاً لأميركا والغرب عموماً، فكانت حرب 67، لم يطمئنوا إلا بعد رحيله عام 1970. المأثرة الناصرية انتهت بالهزيمة، ولم تكن كاملة، شبح عبد الناصر بقي مهيمناً على المنطقة. لم يكن في تحديه للغرب على خطأ، في الحقيقة كان الغرب ضد القادة الجماهيريين، اعتبروا أنهم على نمط هتلر وموسوليني، غير مهيئين للديمقراطية، وإن كانوا سيتعاملون مع القادة الديكتاتوريين، فهؤلاء أضمن.

تلقى ضباط الانقلابات هذا الدرس: لا صراع مع الغرب. فانصرفت مغامراتهم إلى الداخل حيث لا هزائم، وتركزت عزيمة الأجهزة الأمنية على الشعب الأعزل، إذا كان الغرب قد كف شروره عنهم، فالشر سيأتي من الشعب.

ترك عبد الناصر إرثاً ثقيلاً، فالإعلام الذي كرّسه “قائد الأمة العربية”، سارع الانقلابيون إلى تقليده، وطمع كل منهم بوراثته. الزعامة المنشودة، لن تكلّف أكثر من أجهزة دعاية نشطة، لا تكفّ عن التسبيح بحمد الرئيس، ولغة تكذب، تحول الهزائم إلى انتصارات، والمعارضة إلى ثورة مضادة، والثورة إلى إرهاب، ما يبيح القمع بلا رحمة، فترسخ الانقلاب وتحول إلى حكومة مستقرة وجماهير كادحة، وأجهزة أمنية تغطي أرجاء البلاد. الإنجاز الجوهري سيتجاوز “حبيب الملايين” إلى إسباغ العظمة والخلود على “الرئيس سيد الوطن”.