غالباً ما يُنظر إلى المثقف على أنه ضمير الأمة والناقد الدائم للسلطة. هذه صورة بسيطة، لكنها تمثل جوهر تعريف غرامشي للمثقف العضوي، وإدوارد سعيد للمثقف النقدي. غير أن هذه الصورة لا يمكن أن تتحقق إلا عندما يقف المثقف على أرضية الحقيقة، ويحتكم في مواقفه إلى العقل والوقائع، لا إلى الميول والانفعالات والغرائز، أو الأهواء الأيديولوجية. وعندما يتنازل عن العقل، أو يتحايل على الوقائع، يتحول إلى مشارك في تزييف الوعي.

كيف يكون المثقف معارضاً؟ وبأية أدوات؟ وما حدود مسؤوليته تجاه الحقيقة، حين يقف في موقع المواجهة مع السلطة أو ضد السائد، هل يجوز له أن يتلقف الشائعات، ويعيد نشر الأكاذيب، ويعتمد على التلفيقات، إذا كانت تخدم توجهاته، أو تعزز السردية التي يتبناها؟ هذه الممارسات باتت رائجة في زمن الشبكات الاجتماعية، حيث يسهل ترويج أية معلومة من دون التحقق منها، ما دام الفسابكة وغيرهم، لا يهتمون بالحقيقة، وإنما بما يتوافق مع قناعاتهم، والأغلب أهوائهم.

غواية المعارضة مغرية؛ لأنها تمنح صاحبها شعوراً بالتفوق الأخلاقي، وبالاستقلالية، وربما بالبطولة الفردية. وهي كذلك مغرية لأنها تجعل المثقف في موقع “الضحية النبيلة” فيما لو تعرض لأي اعتداء. لكن ما لم تكن المعارضة مؤسسة على المعلومة الدقيقة، وعلى رؤية إصلاحية تنشد التغيير، فإنها سرعان ما تنقلب إلى تهريج سياسي أو نرجسية فكرية. من ثم لن يسهم في بناء بديل للواقع القائم، ما دام أنه لا مشروع لديه سوى الهدم، ولا رؤية سوى الإلغاء، ولا أدوات يملكها إلا الصراخ، فيتحول إلى جزء من الضجيج الضارب في الفوضى.

المعارضة الحقيقية لا تبدأ من رفض الواقع فقط، بل من معرفة هذا الواقع بدقة، وتحليله بموضوعية، وتقديم بدائل واقعية قابلة للنقاش. وهذه مهمة لا يقدر عليها إلا من يتحلى بالنزاهة الفكرية، والانضباط المنهجي، والقدرة على الفصل بين الرأي والمعلومة، وبين القناعة الشخصية والحقيقة الموضوعية. أما من يجعل من كل خبر سلبي دليلاً على الفساد الشامل، ومن كل إشاعة نبوءة صادقة على الانهيار الوشيك، فإنه لا يختلف كثيراً عمن يروج الأكاذيب الكيدية، بالادعاءات المضللة.

التمييز بين المعارضة قيمةً نبيلةً، والمعارضة أيديولوجيا جاهزةً

المثقف المعارض مدعو اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى مراجعة ضميره، وإعادة ضبط أدواته وبوصلته. وأن يدرك أن المصداقية لا تُبنى بالدسائس والاختلاق والافتراء، ولا بالشعبوية، تحت راية حرية التعبير، بل بالتواضع المعرفي، والقدرة على الاعتراف بالخطأ، والانفتاح على الحوار. كما يجب التمييز بين المعارضة قيمةً نبيلةً، والمعارضة أيديولوجيا جاهزةً، لا ترى في خصومها إلا الشر المطلق، ولا ترى في نفسها إلا الحقيقة المطلقة.

الطبيعي أن يكون المثقف مشككاً في الروايات الرسمية، ومنتقداً للسلطة، هذا جزء من دوره في حماية المجتمع من الاستبداد ومن الانحدار نحو التفاهة، لكن من غير الطبيعي أن يستبدل البحث والتحري بالأحكام المسبقة، والتوثيق بالتلفيق، والتيقن بالإشاعة. ومن غير المقبول أن يطالب المثقف بالشفافية من السلطة، ولا يمارس الحد الأدنى من الشفافية مع نفسه، ولا يتحمل المسؤولية عندما يسهم في خداع الرأي العام.

غواية المعارضة ليست عيباً بحد ذاتها. ولكن الخطورة تبدأ حين تتحول الغواية إلى إدمان، (كما حاصل اليوم) عندئذ يفقد المثقف دوره، ويفقد المجتمع بوصلته، وتتحول الساحة الفكرية إلى حلبة صراع بين ديماغوجيات متقابلة، لا رابح، وإنما خاسرون. المعارضة الحقيقية ليست أن نقول “لا” دائماً، بل أن نقول “نعم” للحقيقة، أياً كان مصدرها، و”لا” للباطل، أياً كان قائله.

للمعارِض دور فاعل، بشرط أن يكون صادقاً أولاً، ودقيقاً ثانياً، ومسؤولاً دائماً عما يقوله أو يفعله.