سجلت المرحلة الأيديولوجية في العالم نهايتها مع انهيار جدار برلين، وتساقط اشتراكيات أوربا الشرقية، وانتقال روسيا إلى إنشاء محور بلا اشتراكية ولا ماركسية لم يتحدد بعد. ما يسمح بالنظر بواقعية إلى الايديولوجيا، بعد مرور عدة عقود على وضع حد لها. ان ما يجدد الحديث عنها اليوم، هو استمراريتها بأشكال أخرى في سوريا وغيرها من البلدان التي ما زالت ترزح تحت حكم أنظمة مماثلة.
يمكن القول، إن بداياتها في سوريا كانت مبكرة، مع احتلال الحزب الشيوعي مساحة في الشارع والانتخابات، وما التحق بها من يساريات مشابهة لأحزاب زعمت التوجه الاشتراكي، أحدها حزب البعث، الذي جاء العسكر على ظهره. وإذا كان لهذه الأحزاب من أدوار عقيمة من دون جدوى، فقد لعبتها في الحرب الباردة بانحيازها إلى الكتلة الشرقية ضد الامبريالية العالمية.
كان انتشار الفكر الاشتراكي واسع النطاق، كاد ان يشمل العالم الثالث واغلب قارات العالم، نبعت شعبيته من دعوته إلى العدالة الاجتماعية، والخلاص من الاستعمار والسعي إلى الاشتراكية تمهيدا للانتقال الى الشيوعية. اما الامبريالية فاعتمدت الحرية، تلك التي أهملتها الشيوعية، برفعها شعار لا حرية لأعداء الشعب، أدت إلى لا حرية للشعب.
أدى الخلاف بين الروس والأمريكان، إلى انقسام العالم إلى معسكرين في الحرب الباردة، وكان الصراع بينهما بأسلحة أيديولوجية إضافة إلى الجواسيس. وأصبحت الدول التابعة أبواقاً لهما. تلك ببساطة حكاية الشعوب المرغمة على اعتناق ايديولوجيات، لم تعن لها سوى المزيد من البؤس الإنساني والانخراط في صراع طويل كاد أن يؤدي الى دمار العالم.
في سوريا، هَيمن اليسار باجنحته المتعددة على الثقافة، كان تيار العصر الجارف، فالسياسي والمثقّف والأديب والصحافي لا يكون تقدُّمياً إن لم يكن اشتراكياً، والأفضل شيوعياً. وكان لسريان اليقين اليساري في الأوساط الأدبية مفعول سحر الشعوذة، واعتبار أدباء اليسار أفضل من غيرهم فكرياً وسياسياً وأخلاقياً، َووُصف خصومهم في الوطن، بالرجعيّين والعملاء والخونة والمتآمرين. لو أنَّ أحداً تجرّأ على النظام السوفييتي أو صراع الطبقات لاتُّهم بالجنون. يستحيل أن يغامر مثقّف في إزالة القداسة عن التدين اليساري.
أدى تبادل الفضائح بين المعسكرين، إلى تعرية النظام الشيوعي على الرغم من الستار الحديدي، والكشف عن المحاكمات والسجون والمنافي وأساليب القمع والعسف، كما لا حريات ولا تعبير عن الرأي. لم تعد روسيا مثالا للجنة الموعودة، تلك دعاية لم تصمد. كانت الجحيم على الأرض. كان انعكاسها على الأدب كارثيا، لم يعد التزاما باشتراطات الواقعية الاشتراكية، وتقيد الأدباء بها، بقدر ما كانت الالتزام بالأيديولوجية الشيوعية، تلخصها قضايا التحول الاشتراكي ودكتاتورية البروليتاريا والمادية التاريخية. كان أي نقد لها، يعتبر انحرافا وتحريفا. بات الأدب داعية لسياسات الدولة الشيوعية الأم. ما شكل مأزقاً للمثقفين المناصرين لها في العالم الغربي.
في سوريا، تجسدت مقولات الأيديولوجية اليسارية في كتاب نبيل سليمان وبوعلي ياسين “الادب والايديولوجيا في سوريا” تجلت في تطبيقاتها، وكانت بتصنيف الادباء إلى رجعيين من مخلفات المجتمع القديم، وليبراليين رأسماليين وبرجوازيون صغار. شمل هذا التصنيف عبد السلام العجيلي والفت الادلبي، ونزار قباني وغادة السمان وممدوح عدوان وزكريا تامر وعلي الجندي وغيرهم، اعتبروا أدباء معادين للتقدم. بينما نجا حنا مينه وسعد الله نوس وعبد الله عبد وغيرهم كأدباء تقدميين كمثال للأدب القويم. بذلك ابتدعوا وصفة للأدب التقدمي ينبغي الاقتداء بها وعدم الخروج عنها، كانت وصفة أيضا للقضاء على حرية الأدب في التعبير.
غررت الأيديولوجيا بالمثقفين، من خلال الاعتقاد بقدرة الاشتراكية على تحقيق العدالة الاجتماعية، والتسليم بقدرتها على تفسير التاريخ والتكهُّن بالمستقبل، والزعم بمعرفة الطريق الذي يسير فيه العالم، وإلى أين يؤدّي؟ أما لماذا أفرزت أبشع نُظُم الطغيان؟ فلا جواب، كان التفكير ممنوعا، فالدولة أسلمت اقدارها للديكتاتوريات. ومهما قيل، كانت إخفاق الاشتراكية، فرصة ضائعة، أهدرت حلم الإنسانية في حياة أفضل، وقصفت أعمار أجيال من البشر.
يشير درس التاريخ إلى عالمنا الذي استهلك الأيديولوجيات في القرن الماضي؛ النازية والفاشية والستالينية، ومع أنها أصبحت من عتاد ماضيه الأسود، لكنه لم يتخلص منها، وكأن لها تجليات أخرى، طالما أن الدكتاتوريات الصاعدة تفتقد إلى ما يشرعن وجودها واستمراريتها. ففي سوريا لم ترحل الأيديولوجيا، رغم أنها سقطت في بلدانها، النظام بحاجة إليها، لتبرير وجوده، فاتكأ على شعارات؛ الصمود والتصدي، المقاومة والممانعة، لم تنفع الا في المسيرات، مشى تحت لافتاتها المتظاهرون.
خلفت الأيديولوجيا في بلداننا جذورا ضاربة في واقعنا وحياتنا وادبنا، طرأت عليها بعض التحولات تمثلت فيما يدعى “الخطوط الحمراء”، ممنوع الاقتراب منها، وفي حال تخطيها أو حتى ملامستها، يتعرض مرتكبها إلى العقاب، تتحدد بأمن الدولة والدفاع عنها، وهيبة الرئاسة، لكنها في الواقع تتناول كل شيء، خاصة في تفسير النيل من عزيمة الأمة، بحيث لا ينجو منها مثقف ولا أديب ولا صحفي أو معلم في مدرسة ولا ممرضة في مستشفى أو بائع جوال…
سيجد المنظّرون في مخابرات النظام أيديولوجية مثالية، تعمم على الشعب، كانت شعار “منحبك”، اتخذت من الدكتاتور ملهما للطاعة والخنوع. ولفقوا لها جماهير “المنحبكجية” تهتف له وتفتديه بالروح والدم. بالرغم من سخافة الفكرة وهشاشتها، وعدم علاقتها مع الواقع والسياسة، استطاع نظام منحط البقاء في غفلة عن المنطق والعقل. وإذا كان الاعتقاد السائد من قبل حول الشيوعية أن البلد لا محالة ذاهبة إلى الجنة على الأرض، ففي سوريا بتلويح النظام بجنة على الأرض، تحت راي “منحبك” يرسل الشعب إلى السجون والنزوح والموت تحت التعذيب.
بالنسبة للأدب لئلا يحصل التباس بين الأيديولوجيا والالتزام، لا بد من الجواب عن سؤال هل يصحُّ الالتزام في الأدب؟ نعم يصحُّ، ويصحُّ أيضاً ألّا يلتزم الأديب. هذا لا يمنع ذاك. الأدبُ ليسَ دعايةً انتخابية، ولا إدارة الظهر عمّا يعجّ به العالم من قضايا، ولنتذكر أنَّ الأدب والفنّ فضاء من الحرية، علينا ألّا نخسره تحت أي دعوى. فالأمر ليس الالتزام أو عدمه، النضال أو عدمه، بل الإنسان، سواء في رفع الظلم عنه، أو البحث عن منافذ لتحقيق انسانيته.
الأدب بالضرورة مسيّس، وبالضرورة بلا أيديولوجيا؛ وبالضرورة لا يرتهن إلا للضمير.