خلال الأشهر الماضية، انشطر العالم بوضوح إلى طرفَين: الأوّل تتعالى أصواته بإدانة “إسرائيل” واتّهامها بارتكاب المجازر في غزّة، بينما الثاني لا يكتفى بإدانة المقاومة الفلسطينية، بل يشارك، بشكل ما في الحرب، فيُدافع عن “إسرائيل” في وسائل الإعلام ويُزوّدها بالأسلحة والذخائر.

الطرف الأوّل في اتساع، لكنّه أعزل، يرفع الأعلام، وصور الضحايا والدمار. الطرف الثاني، إضافةً إلى قصّة السلاح والذخائر، عمل أخيراً على استصدار قرار بمنع الكوفية الفلسطينية، بحجّة أنّها دليل إدانة على جُرم العداء للسامية. الهدف بريء، استئصال أيّ رمز يدلّ على “الإرهاب”. وحسبما ادّعى حكماء “إسرائيل” في “الكابينت” الوزاري، كان جيشها في الحروب الأكثر أخلاقية في العالم، وبسؤال المحقّق الأممي كريس سيدوتي عن صحّة ما يزعمونه، اعترف بأنّه لا يمتلك المعايير التي يُقيّم على أساسها هذا الادعاء، لكنّه يستطيع البرهنة على أنّ الجيش الإسرائيلي هو الأكثر إجراماً في العالم.

ما ينقلنا إلى المجتمع الإسرائيلي، لا يقلّ ما يُزعم عنه عمّا ادّعاه حكماء “الكابينت” من أنّه المجتمع الأكثر طلباً للسلام في المنطقة، أي أنّه مجتمع مسالم. لن نستطيع التأكّد من هذا الزعم، لأنّ جميع المجتمعات تطلب السلام، بينما استطلاعات الرأي تقول إنّ ثلثَي المجتمع الإسرائيلي يُحرّضان على استمرار الحرب، وهناك من همس بثقة من داخل “إسرائيل” نفسها وقال إنّ النسبة تتجاوز التسعين بالمائة. هذا هو المجتمع المسالم. يطلب الإسرائيليون السلام، لكنّهم عاجزون عن توفير الأمان للفلسطينيّين، ما دام يتطلب رفع الاحتلال، والتزام القوانين الدولية.

لئلا تُشوّشنا الآراء والتصريحات واستطلاعات الرأي، لأنّنا نعيش حالياً حالة حرب، ما يجعل الحُكم على الأمور مبالغاً به، خصوصاً أنّ الحكومة الإسرائيلية تُشبّه السابع من أكتوبر بأنه 11 سبتمبر إسرائيلي، أي أنّ جنود ومجنّدات الجيش الإسرائيلي كانوا موظّفين وموظّفات في المكاتب لا في الدبّابات ووراء الاستحكامات، يُسدّدون أسلحتهم نحو غزّة.

عندما كان الاعتقاد سارياً بأنّ الحرب كانت بين العرب و”إسرائيل”، تقدّمَت الدول العربية بعدّة مبادرات سلام، لإنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، خضعت للمناورات من الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، مرّةً تُرفَض بحجّة مساسها بخطوط حمراء، وأُخرى بأنّها بحاجة إلى مفاوضات، أو أنّه لا يمكن الوصول إلى حلّ لاحتوائها على إملاءات، وأحياناً تمدح لأنّها تُمثّل تغييراً ثورياً، لكن كي تحوز القبول يجب التنازل عن بعض البنود، ثمّ اعتُبرت جيّدة لكنّها لا تُعتبر أساساً للمفاوضات، أو تحتاج إلى تحديث بأن تأخذ بالاعتبار ما طرأ على المنطقة من تطوّرات، ثمّ وجدوا أنّها معقولة لكن بإلغاء بعض مطالبها حول الانسحاب واللاجئين والمستوطنات.

رفضت “إسرائيل” المبادرات كلّها، فانهارت كلّها، مع أنّ الغرب رحّب بها، وتطوّع لتقريب وجهات النظر، وإبداء استعداده ليأخذ بوجهة نظر “إسرائيل” التي أهملتها، فأهملها الغرب. وبما أنّ العرب أدركوا ألّا فائدة، نفضوا أيديهم، وإن زعموا أنّهم لن يكلّوا عن محاولة إقناع الغرب بالحلّ، فأخذه الأميركان على عاتقهم، وارتاحت الحكومات العربية منه، وأُعيد تنشيط شعار، بلدي أوّلاً: فكانت مصر أوّلاً، ولبنان أوّلاً، وسورية أوّلاً… من هذا المنطق جرى الضغط على منظّمة التحرير للتطبيع مع “إسرائيل”، وشجّعوا الفلسطينيّين على أن تكون فلسطين أوّلاً. حسناً إذا طبّع الفلسطينيون، فنحن سنطبّع، فتسارعت دول عربية إلى التطبيع، بينما “إسرائيل” أصرّت على رفض فكرة دولة فلسطينية، بافتراض أنها ستُهدّد وجودها، وتكرّرت مهزلة حقّ “إسرائيل” بالدفاع عن وجودها، أمّا السلام والأمان، فلا ضمانة إلّا إذا قضمت أراضي الفلسطينيين بالمستوطنات، ودفعت إلى تهجيرهم.

تُركت فلسطين وحيدة، وإذا كان العرب ما زالوا يعتقدون بأنّ فلسطين قضيتهم، فلن نقول إنّهم أخطأوا، بل اقترفوا جريمةً بحقّ الشعب الفلسطيني، ويتحمّلون الاتهام على نكولهم عن القضايا العربية، ما سمح لإيران بالتسلّل إليها، خصوصاً أنّه بعد السابع من أكتوبر، باتت مواقفهم اصطفافاً إلى جانب الإسرائيليّين.

تخلّى العرب عن أكثر من ساحة للإيرانيّين، لبنان والعراق وسورية واليمن، واليوم لا يوفّرون فرصةً للتطبيع مع النظام السوري، بدلاً من التطبيع مع الشعب السوري، بينما إيران جادّة في استثمار ما تخلّى عنه العرب، في تثبيت مشروعها في المنطقة. وعندما نُدرك أنّ عدوّنا “إسرائيل” وإيران معاً، ولا تمييز بينهما، كلاهما يستثمر في حروب تندلع في بلادنا ونحن ضحاياها. فما تفعله “إسرائيل” لا يقلّ عن إبادة، وإيران ليست صديقة، تريد السطو على العواصم العربية، وإذا وجدت عائقاً، فالإبادة، لقد جرّبتها في سورية.

بالعودة إلى المجتمع الإسرائيلي، لا أمل منه، لم يُظهر بادرة سلام، ولا يكفي وجود صحافي شجاع هو جدعون ليفي، يريد السلام فعلاً للإسرائيليّين والفلسطينيّين معاً، أمثاله قلائل في مجتمع مشوّه حتى العظم، ومصاب بالعمى، وبالتحديد العمى الأخلاقي، يمكن اعتباره المجتمع الأكثر شرّاً في العالم.