بعد الانتصارات التي سجلتها الثورات العربية، تبارى بعض الأدباء الراغبين في التواجد على كل ساحة، بالادعاء كل في بلده أنه تنبأ بالثورة في عمل أدبي سابق له، في محاولة لانتزاع القدرة على التنبؤ من المتنبئين المحترفين، خاصة بعدما غصت بهم القنوات التلفزيونية، وظفروا بنجاحات واسعة، لم تقتصر رؤيتهم على مستقبل بلدانهم، بل امتدت إلى البلدان العربية الأخرى. ما حقق لهم رواجاً وشعبية في جغرافية واسعة تمتد من المحيط إلى الخليج. هذا للذين يزعمون أن الوحدة العربية وهم وخيال، إذا لم تدر الوحدة العربية المنافع على الضاربين في الغيب، فلا وحدة ولا عرب. أما والفوائد متحققة بتفرق العرب، فالوحدة ستبقى في حدود التنبؤات بعيدة المدى المفيدة لأصحابها، والرابحة من تبعثرهم والأمل بوحدتهم.
حسب علمي، لم يتنبأ أحد من الأدباء ولا من غير الأدباء بالثورات العربية التي فاجأت الجميع، وعلى رأسهم مخابرات الدول الغربية، تلك التي تصنع التنبؤات على الأرض. إلا إذا كان الأدباء، تمنوا كما يتمنون دائماً في كتاباتهم باندحار الظلم، فاعتبروها نبوءة بزوال الدكتاتوريات. ماذا مثلاً لو كان البديل دكتاتورية فاسدة، مـتأسلمة أو متعلمنة؟ هذا ما باتت الثورات مرشحة له، ليس من باب التنبؤ، بل من باب المخاوف.
عادة يلجأ المحللون السياسيون ومراكز الأبحاث، إلى وضع سيناريوهات، كناية عن موهبة التنبؤ، من دون التلميح إليها، فهي لا تجيز لصاحبها بأكثر من واحدة للحدث الواحد، وإلا سقط عنها هذا الوصف المتفرد بها. أحد مراكز الأبحاث وضع قبل أكثر من سنة، مايزيد على خمسة سيناريوهات لنهاية النظام في سورية، وحتى الآن لم يتحقق واحد منها، آفاق الحل مسدودة، إن لم تكن معدومة، وإن كانت احياناً تبدو قريبة. اي حل يواجه بتعقيدات هائلة ، وكلها تؤكد أنأمد الأزمة سيطول إلى عشر سنوات فما فوق، وهو سيناريو تنبؤي لأكثر من محلل سياسي مخضرم بالأزمات المستعصية. على كل حال، السيناريوهات المعتمدة، ليست غير ذرائع غربية كي يتابع السوريون التقاتل في ما بينهم.
التنبؤ الوحيد الذي أجمعنا عليه قبل الثورة، كان من قبيل التوقعات، وهو أنه من المستحيل أن تنجح الثورة في سورية، للأسباب نفسها التي أسهمت بانتصار الثورات التونسية والمصرية. ففي البلدين، كانت ثورة الشعب بجميع فئاته، ووقوف الجيش إلى جانبه، ورفضه اطلاق الرصاص على المظاهرات. بالنسبة لسورية، لم تحز الثورة على اجماع الشعب، قسم لا يستهان به، تخلف عنها واكتفى بالصمت، دعي وقتها بـ”الأغلبية الصامتة”، كما أن أجهزة الأمن والجيش، لم تقف مع الشعب، بل قمعته بكل شدة، وكأن بينها وبينه ثأراً حان سداده.
قصّرت توقعاتنا عن أمرين، القسم الذي تخلف عن الثورة، جزء كبير منه، لم يكتف بالصمت ، بل ساند النظام ودعمه. الأمر الثاني، لم ينحصر القمع على أجهزة الأمن والجيش، اضيف إليهم عصابات الشبيحة، وفي ما بعد حزب الله المقاوم لإسرائيل الذي حوّل بنادقه إلى سورية، ومعه ألوية متطرفة طائفياً من العراق الشقيق، الذي مازال يعاني حتى الآن من الطائفية نفسها.
لم نتوقع أن تدوم الثورة طويلاً، بضعة أشهر وتنتصر، اسوة بغيرها من الثورات، لكنها تجاوزت عامين ونصف، وما زالت تطلب المزيد من الوقت لتنهي أعمالها. كما لم نتوقع أن تصبح أزمة إقليمية، ومن ثم دولية، وحسب النظام مؤامرة كونية.
المؤسف أن ما حدث قارب توقعاتنا، وثبت أن الثورة التي حدثت فعلاً، كانت مستحيلة، وجعلها المقاتلون الاسلاميون القادمون من الخارج أكثر استحالة، واتخذهم الغرب ذريعة ليتنكر لوعوده الانسانية، التي أصبحت لا إنسانية. غير أن ما أعقبها على أرض الواقع فاق توقعاتنا اللاحقة: الثورة المستحيلة صمدت، وكان استمرارها أشبه بالمعجزة!!
بالعودة إلى الحقيقة، لا إلى التنبؤات والسيناريوهات والتوقعات، ما جعل الثورة ممكنة؛ الظلم الواقع على السوريين:الاعتقالات، الكرامة المهدورة، أقبية المخابرات، السجون، التعذيب حتى الموت، مشانق تدمر. وما جعلها تستمر؛ قصف الطائرات والدبابات والمدافع والبراميل المتفجرة والاعدامات الميدانية، ومؤخراً الأسلحة الكيميائية.
-
المصدر :
- المدن