يمكن اعتبار الثورة السورية مختلفة عما سبقها من الثورات العربية، فهي ما زالت بعد مضي عامين على نشوبها تعاني من معوقاتها الداخلية، المتشابكة مع معوقات خارجية، تفرض عليها اجندات مضادة لتطلعاتها، إن كانت تدل إلى شيء، فإلى حالة بلد باتت أطرافه تتصارع، وتستقوي بالخارج. هذا ملمح عريض من ملامح الأزمة السورية، ما يؤشر إلى مجتمعات باتت منقسمة على نفسها، كل منها على وفاق مع الخارج ومتنابذ في الداخل. هل كنا مخدوعين بسورية واحدة؟ نعرف أن مجتمعاتنا على تنوعها واحدة، لكنها لم تحقق التجانس المطلوب، والظن لم يبلغ بنا أنها ستنهار بهذه الصورة المخزية، وأن النظام سيختار القتل وسيلة عملية ووحيدة للإصلاح.
الأديب مثل المؤرخ مدعو للتساؤل عن الانحدار الحاصل، والكشف عن العداوة بين الاخوة، والتبصر في عمق الأزمة التي باتت تتحكم في مسيرة سورية نحو الدمار، أو التقسيم، أو حرب عبثية تمتد لسنوات قادمة. من هذه الناحية لدى التاريخ والأدب ما يخوضان فيه، كل بوسائله. لكن الأحداث على الأرض تسبقهما، لا تسمح للتاريخ إلا بالتوثيق، وللأدب إلا بتسجيل الانطباعات الآنية. وفيما لو تقيد كلاهما بهذه الحدود، فلن يكون لهما دور سواه، هل عليهما الانتظار؟

إذا كان ما يجري ثورة، فمن المبكر القول إنها تضع حداً فاصلاً بين عهدين، مع أنها على الأرض أسالت أنهاراً من الدماء، وما بات يفصل بين أطرافها، يتعدى القتال إلى تمزق الرؤى والتوجهات … يصل حد التناقض حتى في النظر إلى يوم الحساب في العالم الآخر، مع أنهما كلاهما يستعينان به في تنشيط الحرب بينهما، حتى بات يوم الحساب في هذا العالم.

يبدو الانتظار لصياغة ما يدعى أدب الثورة وما بعد الثورة مهما اجتهدنا، لن يكون إلا على سبيل الدعاية والانشاء. ما لا يعرفه الكثيرون أن أدب ما قبل، كان أكثر ثورية، من أدب ما بعد. أدب ما قبل، يعرف ما يريد وما هو بحاجة إليه، وما يناضل من أجله. أما ادب ما بعد، فالانضواء تحت السلطة الجديدة، وأن يجد له مكاناُ في ظلالها يستعمل فيها بلاغته في التهليل لها.

وفي مثال استيلاء البعث على السلطة، حقيقة لا يمكن اغفالها، فثورة 8 آذار، التي كانت مطمح الأدباء الثوريين في ذلك الزمن، تغنى بها عشرات الشعراء إن لن نقل ما يزيد على المئات من شعراء المنابر الكبار والموهوبين والناشئين، وبوسعنا الاطلاع على الجرائد الرسمية الحافلة بالمدائح اليومية . تبنى الشعر خلالها الكلمات المفتاحية الملائمة لتمجيدها: القومية، الثورية، التقدمية، التحرير، التحديث، المقاومة، الممانعة …ما يجمع منها مجلدات، اختصرت بالتدريج لتتركز أخيراً على تكريس القائد الملهم.

وإذا كان الانتظار سيطول، فهل يحتذيه الأدب وينتظر ما يحمله المستقبل للسوريين. إذا كان للأدباء مواقفهم، فلماذا لا يجري التعبير عنها، بصرف النظر عن مآل النظام والثورة؟ أليس على الأدب التصدي لحدث يختزن الموت والحياة والرعب والشقاء والأمل واليأس والحرية…. بما يستحقه من عمق، ولو كان فيه ارتكاب مخاطرة، لا تخلو من قصر نظر ونفاد صبر؟ هذا الحدث بالنسبة للأدب حالياً، ليس مسألة تاريخية، ولا مصير دولة، ولا المطلوب منه التبشير ولا المباشرة. إنه وبالدرجة الأولى، معضلة انسانية، تطالعنا يومياً وبشكل صادم في عدد القتلى، وتتجلى بصورة بشعة في المجازر المرتكبة، وحرب أهلية تبدو مستمرة، لا تعتمد الالغاء فقط، بل في أن جذورها تمتد إلى ما قبل أكثر من قرن، المروع هو كميات الحقد المتراكمة، التي يبدو وكأن الأحفاد توارثوها سراً، ومرروها سراً من جيل إلى جيل، وحان الوقت كي تتفجر. هل هي ذريعة أم حقيقة؟

ليس من مهمة الأدب الآن أن يكتفي بدور “شاهد عيان”، بل في كونه شهادة حية في هذا الظرف الممتد إلى ما نجهله، وفي دعوة الأدب إلى أن يفكر، وأن يكون مسؤولاً. إذا كان ينشد الحقيقة… فالثورة إحدى الحقائق، وهو المخول الأكثر جدارة بطرح الأسئلة الصعبة، وأيضاً المجازفة بالإجابات عنها.