يُمكن تحديد بداية النزاع بين الأيديولوجيا والأدب في الرُّبع الأول من القرن الماضي، استهلّها الأدباء الرُّوس من شعراء وكتّاب، دفع بعضهم ثمناً باهظاً، للتصدّي لطروحات المُنظّر الروسي الأكثر ضراوة أندريه جدانوف. وكان نصيبهم السجن والنفي أو الإعدام والانتحار والاضطهاد، منهم الشعراء: أخماتوفا وماياكوفسكي ويسنين وبرودسكي، وكتّاب كإسحق بابل وبولغاكوف وسولجنتسين وباسترناك، كانوا غيضاً من فيض، على أمل انتزاع الأدب من قيود الأيديولوجيا، لا السياسة، فقد كانت كتابتهم تنتقد سياسات البلاشفة من خلال المُطالبة بحرّية الأدب.
وإذا كان هذا النزاع لم ينته، بل انتقل إلى بلدان القارّات الثلاث، فلأنّ الأيديولوجيات عاشت مرحلة ازدهار خلال الحرب الباردة، وكان في احتدام الصراع بين الأيديولوجية الاشتراكية والأيديولوجية الرأسمالية، وذلك بتجنيد الأدب في معركة دارت بينهما في أرجاء العالَم، خلالها التبست حُرّية الأدب مع دعوى الالتزام، فبدا كأنّ الصراع أصبح أكثر براءة، مع أنّ التعايُش بينهما كان أفضل من بقاء الأدب تحت ظلال أيديولوجيات مُتناحرة، لن تُودي إلّا إلى المزيد من التناحُر تحت رعاية المخابرات.
بشكل مُبسَّط، تُعتبر الأيديولوجيا منظومة من الأفكار والمُعتقدات والأفكار لا تُشكّل نظرتنا إلى العالَم فقط، بل وطرائق تغييره، وليس في السيطرة على الحاضر فقط، بل وترسُم خطوات التقدّم الحديدية أي الواضحة نحو المستقبل. ما يُملي على البشر اعتناق أفكار، تُصبح جزءاً من أساليب تفكيرهم، كشيء طبيعي، حتى لو كانت هذه الأفكار خاطئة والمُعتقدات مشبوهة، بل وتبدو في منتهى العقلانية إلى حدّ الإيمان بها، وكأنها عقيدة دينية مُقدَّسة.
لم تسقط الشموليات الاستبدادية إلّا بسقوط ملايين البشر
لن يكون ثمّة تمايزٌ ولا تمييزٌ في واقع التشبُّث بأيديولوجيات وُضعت لتكون نهائية، لا تقبل النقاش ولا المراجعة، حتى لو كانت متناقضة ومتحاربة، طالما الصراع بينهما يمدّها بأسباب الخلاف. وربما في تقييم الأيديولوجيات بشكل عام أفضل من محاولات التمييز بينهما والانحياز لإحداهما. إن تقييم أي أيديولوجية ينبع من داخلها، إلى أيّ حدٍّ هي مُنفتحة، وتتقبّل الآخر، وتمنح الإنسان الطاقة والقُدرة على الازدهار. الأسوأ هي الأيديولوجيات المُنغلقة على نفسها، وهي أكثر ما تُلاقي رواجاً لدى مؤمنين بها من تابعين وأنصار، حتى أنّ الاعتقاد يذهب إلى أنها كلّما كانت مُتشدّدة أكثر، يكثر الإقبال عليها.
إنّ ما يجعل الأيديولوجيات خطرة هو أنها تكتسب كينونتها من صلابتها لا من مرونتها. ويُمكن التعرُّف إلى هذه الأنواع التي كانت وراء قيام أنظمة وحروب وكوارث، وكانت من أبرز الأيديولوجيات المُسيطرة في القرن الماضي: الستالينية، والرأسمالية، والنازية، والفاشية، لم تسقط أيّ منها، إلّا بسقوط ملايين الضحايا.
بينما تُعنى السياسة ليس بشؤون البشر من خلال الدولة، وتهتمّ بالفضاء العامّ للمجتمع وبكلّ ما يخصّه، وما يختصّ بعملية صُنع القرارات المُلزمة، تتناول قِيَماً مادّية ومعنوية تخصّ الإنسان. وإذا كان هناك من يُعرّفها بأنها فنّ المُمكن من ناحية الخضوع للواقع السياسي، وعدم تغييره بناءً على حسابات القوّة، لكن في الوقت نفسه القُدرة على تغييره تبعاً للمصلحة، ولو كانت الدولة تحتكر وسائل الإكراه كالجيش والشرطة، لكن للحفاظ عليها، وكلّ ما يتعلق بظاهرة السلطة.
عادة ما تضع الأيديولوجيات يدها على السياسة، فهي في جوهرها وأهدافها تنحو إلى احتكار السياسة، ولا يُمكن تحقيق سيطرتها على البشر إلّا من خلالها، ولن يكون إلّا تحصيل حاصل، عندما تفرض الأيديولوجيا إملاءاتها على الأدب والأديب، كيف يُفكّر، وكيف يكتب، وأيّ موقف يتّخذ… إنه مجرّد كاتب ينطق بلسانها، من هنا نشأت قصة المُباشرة والمنشور السياسي، والبطل الإيجابي، وصراع الطبقات، وحتمية التاريخ، والانتصار الاشتراكي والقطار الذاهب لا محالة إلى الشيوعية.
وفي البلدان العربية شيء ما من هذا القبيل، بالتذرّع بالاشتراكية أو الرأسمالية، أو بأيديولوجية دينية، وقد تختار الاستقلالية كما في سورية وذلك من خلال تجديد أيديولوجياتها من الصمود والتصدّي إلى المقاومة والممانعة، وكانت كلّ منها أكثر مهزلة من الأُخرى، ترعاها حتمية التقيُّد بالمنطلقات النظرية لحزب البعث، ما أدّى إلى دولة المخدّرات.
وما انتهاء زمن الأيديولوجيات، أو تساقُطها، إلّا تاريخ تحرُّر الأدب منها لا من السياسة، فالأدب يُعنى بكلّ شيء، وليس هناك ما هو محظور عليه طالما أنّ الإنسان شأنُه، وإذا كانت السياسة من أجل الإنسان، فالسياسة شأنُه ما دامت تنحو إلى أن تصنع ما يجعل حياته تزدهر، لا أن تتحكّم بمصيره.
-
المصدر :
- العربي الجديد