خلال الحرب الإسرائيلية على غزّة، استعدنا سورية خلال الثورة والحرب التي لم تنته بعد، وذلك في أكثر من حالٍ، سواء في الدمار الهائل الذي لم يدع مدرسة ولا مستشفى أو مسجد من القصف، أو ذلك القدر المُرعب من القتل، مع الاعتقال والتعذيب والتمثيل بالجثث، وكأنَّ الإسرائيليين تعلّموا من النظام السوري أنَّ الإجرام لا حدود له، مع أنه لا ينقصهم عار ولا وصمة.

حربان لم توفّرا النساء والأطفال والكبار في السن، تبدو حصيلتها مُخيفة تضمّ ملايين المعتقلين والشهداء والمحاصرين في الخيام بالبرد والفقر، وإن تميّزت سورية بزيادة كبيرة بسبب طول حرب مستمرة، وعدد لافت من المُغيّبين قسريّاً، الذين لا يُعرف إن كانوا أمواتاً أو أحياءً، استدركت بشهدائها خمسة وسبعين عاماً من القمع الإسرائيلي.

وجه التشابهِ أيضاً: حرب غزّة تُشنُّ بدعم أميركي بالأسلحة والذخائر الأميركية، بينما الحرب السورية بدعم من المليشيات المذهبية الإيرانية والسلاح الثقيل الروسي. وما زالت دول في العالم بينها دول عربية، تناقش حقوق السوريّين والفلسطينيّين، هل يستحقون الحرية؟ يبدو أنهم لا يستحقون العيش، حتّى يستحقوا الحرية.

لا يُفهم مشهد غزّة إلا بالكشف عن دعوى محو الفلسطينيّين

لا يمكن لما يُرتكب من جرائم أن يكون ضد الإنسانية إلّا بابتداع مُبررات وذرائع تُبيح هذا القدر من الموت، أي جعل الجنود الإسرائيليّين قادرين على القتل ببلادةٍ دونما إحساس، إلّا بتجريد الفلسطينيّين من الإنسانية لمجرد مطالبتهم بالحق في أراضيهم، وهو ما يتعلّمه الإسرائيليون في المدارس وما تبثّه وسائل الإعلام، وينضح في الخطاب السياسي للحكومة والكنيست بأنَّ الفلسطينيين ليسوا بشراً، وهكذا يسهل قتلهم.

في غزّة لا يعسر على المراقب ملاحظة ما تمارسه “إسرائيل” عمداً من منع وسائل الحياة الضرورية للعيش، وممارسة أسوأ أنواع الإبادة بالقصف والتجويع ومنع المساعدات وحرق المستشفيات وقتل الأطباء والمرضى.

لم يشذّ النظام في سورية عن هذه الآلية الحاقدة منذ عام 2011، وكان في تجريد المتظاهرين الشبّان ومعهم مختلف أنواع المعارضين السلميّين من وطنيّتهم؛ فلم تكن أسلمتهم في مرحلة الثورة إلا لإدراجهم على قائمة الإرهاب، فيصحّ قتلهم واعتقالهم وإعدامهم وتسميمهم بالكيماوي، وتشريدهم وتهجيرهم بالملايين وتدمير بيوتهم ومصادر عيشهم، ذريعةً لإنقاذ الوطن من الفوضى والمؤامرة الكونيّة. هذا ما كانت وسائل الإعلام تلهج به يوميّاً على مدار الساعة.

ما الذي يجعل من جرائم تُعتبر ضدّ التاريخ والمنطق سارية في عصرنا؟ بالنسبة إلى فلسطين، الواضح أنَّ المشروع الاستعماري الاستيطاني الصهيوني لا يمتُّ إلى هذا العصر، انتهى مع نهاية الاستعمار، كانت عودته بعدما سقطت فكرة الحق في القضاء على السكّان الأصليين، أو إزالتهم بتهجيرهم من أرضهم. ولم تُخف الصهيونية الهدف الحقيقي من الاحتلال وهو القضاء على الفلسطينيّين أهل البلاد الأصليين.‏

احتاجت الصهيونية إلى مبررات لتكريس الاحتلال، فلم توفّر جهداً ولا أكاذيب للتلاعب بالتاريخ والدين والتراث. لم يعد كافياً، الاستناد إلى “وعد بلفور”، إزاء المقاومة الفلسطينية وعدم قبول العرب بوجودها ككيان غاصب، فنشأت الحاجة إلى تحالفٍ قويٍّ يقف خلفها، فكانت أميركا بالدرجة الأولى، إن سياسياً في مجلس الأمن أو عسكرياً. وسرعان ما تمدّد التحالف وانتشر وضمّ شركات متعدّدة الجنسيات والصناعات العسكرية، ووسائل إعلام كبرى، وأوساطاً أكاديمية مموّلة من مانحين صهاينة، ومساعدات بمليارات الدولارات، عدا الأسلحة، ودعم لا ينقطع.

ليس المشهد في غزّة وعموم فلسطين، قابلاً للفهم على وجهه الصحيح، إلا بالكشف عن دعوى محو الفلسطينيّين أمام العالم؛ سنقتلهم، إن لم يجدوا مكاناً آخر يرحلون إليه.

بينما في سورية، لم تحدث الثورة تحت تأثير الربيع العربي فقط، كان لها مبرراتها القوية أيضاً، ولم تطالب بإسقاط النظام، إلا بعد اعتماد الحل الأمني والعسكري، لتجنّب القيام بإصلاحات كان الشعب موعوداً بها. تمترس النظام بدكتاتورية تديرها أجهزة الأمن في كلّ خطوة تحت حماية جيشٍ عقائديٍّ، لن نأتي على ذكر الطائفية البغيضة التي جنّدت مليشيات وشبّيحة ورجال أعمال ومثقّفين انتهازيين وأجهزة الإعلام، ما سوّغ إطلاق العنان للاعتقالات والمداهمات والإعدامات، وشنّ حرب على الشعب، كانت خلالها مليشيات إيران المذهبيّة، ذراعه الطويلة في القتل والحصار والتجويع والدمار.

اليوم سورية تحت خمسة احتلالات: بلد يعاني من الخراب والشبيحة والفساد والمخدرات والغلاء الفاحش. نصف الشعب بين نازحٍ ولاجئ، وسجناء في المعتقلات، محتجزون تحت التعذيب منذ ما يزيد على عقد. بلد غدا ساحة حرب بين إيران و”إسرائيل” والأميركان. بلدٌ لا يتقدّم خطوة في كلّ يوم إلّا نحو الهاوية.

ليس كلاًما يقال… سورية وفلسطين بحاجة إلى العرب. أمّا كيف يساعدونهم، فليس الأمر سراً. الحكومات العربية تركت فلسطين وسورية لإيران. إيران تستثمر في القضية الفلسطينية على حساب السوريّين. إذا أراد العرب تفكيك الرابط بينهم، فالعنوان الصحيح ليس بإنقاذ النظام، بل بمساعدة السوريّين، وليس بالتطبيع مع “إسرائيل”، بل باستعادة الشعب الفلسطيني إلى العرب.