يأتي افتتاح مطعم “ناش كراي” إعلاناً عن تدشين صلات إضافية بين روسيا والنظام، فالحرب انتهت وجاء وقت السلام، ما يدل بالدرجة الأولى على أن العلاقات ليست عسكرية فقط، تقتصر على قصف طائرات وأراض محروقة وإبادة وفيتوات، بل علاقات اقتصادية تشكل خطوة متفائلة تحمل من معاني رغد العيش الكثير. إنها مجرد بداية، فمثلاً اعتماد الكافيار من مقبلات الطعام رمز يدل إلى التمتع بحياة رخية، على الرغم من الجوع المتوقع أن يضرب العالم كله في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، ما يطمئن إلى أنها لن تشكل تأثيرا سلبياً على الشعبين الروسي والسوري. لا سيما إذا عرفنا أن “ناش كراي” ليست عنوان الشبع، بل مؤشر على التخمة أيضاً. ولئلا يشط بنا الخيال، لا يزيد “ناش كراي” عن ماركة مسجلة لسلسلة مطاعم روسية فخمة، وما امتدادها إلى العاصمة دمشق إلا أن الاستثمارات الروسية شقت الطريق بالشراكة مع سوريين إلى سوريا المنكوبة، ما يبشر بمستقبل واعد بالازدهار.
أما فخامة المطعم، فيتطلبها العمل على استراتيجية بعيدة المدى، تشير إلى نهاية معاناة شريحة ملموسة من السوريين الموالين الأقحاح، جمعوا ثروات ضخمة ومحرومين من التمتع بها في حياة مرفهة، تحت تأثير الحصار الغربي، فالمطعم سيوفر لهم منافذ للبذخ، ما يشعرهم بأنهم ليسوا أثرياء حرب بلا مقابل، أو جنوا ثرواتهم ليكنزوها في خزائنهم. ما كانت توفره لهم مطاعم باريس ولندن، ستوفره المطاعم الروسية، بأسعار أقل، وبنوعية لا يهم إن كانت أفضل أو أردأ، المهم أنها راقية، يقوم عليها اختصاصيون من الشيف والطباخ إلى معاونين من التابعية الروسية، بالتالي يمكن تشبيههم بمندوبين عن المطبخ الروسي، مثلما السفير الروسي القابع في السفارة، المندوب السامي عن الكرملين.
عادت الشائعات ونفت الخبر، وأكدت بأن الزيارة كانت فعلاً لإجراء اللمسات الأخيرة حول المطعم، أما قصة المرتزقة السوريين، فليست من اختصاصها
ترددت شائعات عن أن ملكيته عائدة لمستشارة الرئيس لشؤون الإعلام، تمهيدا لتقاعدها المبكر، ودخولها إلى سلك رجال الأعمال بصفتها صاحبة مطعم، لا مروجة أكاذيب، وقد يكون للدسائس النسائية في القصر الجمهوري الفضل في إقصائها عن منصبها. هذا الخبر لم يستحق رد المستشارة، بدلالة زيارتها موسكو أكثر من مرة، في مهمات دبلوماسية لإجراء تفاهمات سرية مع المسؤولين الروس، بصدد إرسال مقاتلين سوريين لمساعدة الجيش الروسي في حربه، ردًا على مساعدة روسيا للنظام السوري في حربه ضد الإرهاب، ولو كانت ضد الشعب. أي أنها زيارة لرد الدين والجميل للصديق بوتين، بذلك يصبح الأصدقاء متساوين. عادت الشائعات ونفت الخبر، وأكدت بأن الزيارة كانت فعلاً لإجراء اللمسات الأخيرة حول المطعم، أما قصة المرتزقة السوريين، فليست من اختصاصها. المستشارة معنية في ظهوراتها الإعلامية بتوضيح الكثير من الحقائق، على سبيل المثال، حول ما اعتقد خطأ عن صمود لا فضل للشعب فيه على النظام، فالرئاسة صامدة معه ومن دونه. ما يؤيد ظهور المستشارة بافتتاح المطعم، إنما كان كوجه إعلامي، ولو تلقت التهاني من المجتمع المخملي للأثرياء السوريين الجدد يحف بهم بعض القدماء، ليس كلهم، هناك من طويت صفحته.
أما الشائعات الموثقة، فأكدت بأن ملكية المطعم غير عائدة للمستشارة ولا لزوجها، بل لأشخاص موثوق بهم مقربين للرئاسة، باعتبار المطعم رمزا اجتماعياً حداثياً، وكان تطوعها بافتتاحه، في معرض تمثيلها خطوة ذات طابع سياسي تحيلنا إلى شراكة على قدم المساواة بين دولتين في صناعة الاستقرار. بينما المالكون مجرد واجهة، لا يزيدون عن موظفين يديرون هذه المشاريع، بعدما بلغ الفساد شأوا عظيما، كاد شخص واحد أن يلتهم اقتصاد الدولة، ما اضطر الرئاسة إلى أن تنتزع منه الشركات والمشاريع والأموال والاستثمارات المنهوبة، ولا يخفى أن الرئاسة بكامل أجهزتها تسعى وراء غيره.
وكي نفهم ما يجري في سوريا، هناك حرب موازية بدأت منذ سنوات، تدور بين المافيات، كانت إحدى الإجراءات المتخذة نزع أسلحة الشبيحة، وهو إجراء لم يكتمل، ما زالت الحاجة إلى بعضهم قائمة، فالحرب السورية لم تنته بعد. وما الإشراف الرسمي على المطعم إلا لمنع الميليشيات من الاستيلاء عليه، بعدما أظهر التشبيح مقدرة على وضع اليد على مختلف أنواع التجارات، حتى أنهم شاطروا جهات متنفذة صناعات حصرية تدر ملايين الدولارات، أحدها الكبتاجون.
التمييز ضروري في بلد عانى من حرب طويلة الأمد، خلفت وراءها ملايين الضحايا، من شهداء ومساجين وموقوفين ومختطفين وجرحى ومعوقين ونازحين ومهجرين وأمهات ثكالى وأولاد يتامى… ودمار يفوق الوصف
أخيرا، لا يعنينا من قصة المطعم، لمن تكون عائديته، فاللصوص كثر، ولا يهم أيهم. وإنما الوضع السوري في مرحلة الاستعداد لما بعد صمت المدافع، وهي مرحلة تعلن عن ظهور حفنة من أثرياء الحرب، وطبقة مخملية، وأجهزة أمنية، ومسؤولين حكوميين، وضباط عقائديين، وواجهات ضرورات الاقتصاد، هؤلاء جميعاً أيديهم ملوثة بدماء السوريين، إن لم يقتلوا، فقد ساندوا القتلة. كوفئوا على ما بذلوه، بتوفير مطعم روسي، وقريبا مطعم إيراني، ومطاعم أخرى حليفة.
أما تحديد من يدخل المطعم، فالتمييز ضروري في بلد عانى من حرب طويلة الأمد، خلفت وراءها ملايين الضحايا، من شهداء ومساجين وموقوفين ومختطفين وجرحى ومعوقين ونازحين ومهجرين وأمهات ثكالى وأولاد يتامى… ودمار يفوق الوصف. هؤلاء لا يجوز لهم المشاركة في الطعام الروسي.
بالمناسبة، لم تمنع من دخول المطعم الطبقة التي تضم مواطنين متوسطي الدخل رغم ما يعانونه من الغلاء والبرد والحر، وفقدان للكهرباء والوقود. كذلك الفقراء الذين لا قدرة لديهم على تأمين الخبز. المطعم مفتوح لهم، فالصراع بين الطبقات انتهى منذ عقود، ولا داعي أو مبرر لتجديده، بعدما أصبحت البلد، بلد الموالين فقط، بعد تشتت المعارضين بين السجون والمقابر ومخيمات النزوح وبلدان اللجوء. في الواقع لم يبق إلا طبقة واحدة ذات طيوف تتراوح بين القادرين وغير القادرين على دخول المطعم الروسي، وطبعاً أغلب مطاعم الجمهورية.
في المرحلة القادمة، وهذه طلائعها، ستعتمد استراتيجية المطاعم في سوريا المفيدة، فالمطعم الذي سيدخله الموالي، سيحدد معيار مواطنته ويكشف عن انتمائه، فأن يكون سورياً مفيداً لا يكفي، وانما إلى من ينتمي، إلى الروسي أو الإيراني أو… ذلك يعود إلى الدول التي ستطبع مع النظام من خلال مطابخها.
-
المصدر :
- تلفزيون سوريا