لا يخطئ المتابع لشبكات التواصل الاجتماعي ملاحظة، ومنذ سنوات، أن السوريين لا يكفّوا عن استعادة فترة الحكم الوطني قبل الاستقلال وبعده. ظاهرة شكلت تياراً واسعاً، ضمّ جمهوراً عريضاً يجمعه الحنين إلى تلك الأيام، وما عجت به من شخصيات سياسية وثقافية، فلم يغب عنها هاشم الأتاسي، شكري القوتلي، فارس الخوري، سلطان باشا الأطرش، خالد العظم، فخري البارودي، صالح العلي، تاج الدين الحسني، سعد الله الجابري، رشدي الكيخيا، جميل مردم بك، نجيب الريس، مصطفى السباعي… وغيرهم كثير.
لم تخلُ السرديات عن جوانب من حياتهم الشخصية ومواقفهم السياسية، وأيضاً طرائف عن سلوكياتهم، يعلقون عليها، وأحيانا بلا تعليق، مجرد استعادتها تزخر بالدلالات، أحدها إشارة لا تخطئ إلى عدم أمانة الطبقة الحالية من السياسيين الأجراء، والأثرياء الجدد، والمسؤولين اللصوص، وضباط الأتاوات ورعاة ميليشيات الدفاع عن الوطن.
لا تقتصر هذه العودة على الحنين إلى تلك الفترة، بل للقول إن التاريخ لم يبدأ مع الحركة التصحيحية، ولن ينتهي بسورية الأسد، هناك تاريخ آخر، صحيح أنه لا يمكن له أن يعود، لكن يصح استئنافه. وأكثر ما يلفت الاهتمام والإعجاب بهذا الماضي هو الإحساس بقوة قانون يسري فوق الجميع، وقضاء يمثل العدالة، والسياسة كتجاذب حرّ بين أحزاب، وسياسيين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم، وبرلمان يمثل الشعب، ومرشحين يخوضون انتخابات، تحكمها صناديق لا تلاعب بها.
وتمنحنا سيرة رئيس الجمهورية السورية هاشم الأتاسي مثالاً لسياسي في ذلك الزمن، واجه الكثير من الصراعات والصدامات والعقبات، في حياة سياسية لم تكن قصيرة، امتدت إلى أربعين عاماً، غطت سنوات الانتداب الفرنسي إلى سنوات ما بعد الاستقلال، لم يكن خلالها رجل حرب، وإنما رجل انقاذ وسلام ودبلوماسية ومفاوضات. فقد انتخب رئيساً لأول مؤتمر سوري عام 1919، وتصدى للحلفاء بعدما أعلنوا نواياهم في وضع سورية تحت الانتداب الفرنسي في مؤتمر سان ريمو 1920. كلفه الملك فيصل بتأليف الوزارة التي سترفض الانتداب وتخوض معركة الاستقلال، وفي عهده سيتسلم إنذار غورو، ويعلن الجهاد المقدس، وتدور معركة ميسلون. ثم يخوض معاركه الدستورية ضد الفرنسيين وتقسيمهم للبلاد، كما تتوحد الكتلة الوطنية بزعامته. ولا يكاد ينتهي العام إلا بتوقيع الحكومة الفرنسية معاهدة عام 1936 الواعدة بالاستقلال، ولم يطل الوقت عندما نكثت فرنسا بوعدها، فيستقيل الأتاسي من رئاسة الجمهورية احتجاجاً على فرنسا التي لم تحترم حدود سوريا، حسب صك الانتداب. بعد الجلاء، ولم يكمل الحكم الوطني أعوامه الأولى حتى قام الانقلاب الأول، ثم لحقه الثاني، ولجأت الشخصيات الوطنية إلى الأتاسي الذي أعلن تمسكه بالديمقراطية واعتبر قرارات حل المجلس النيابي واستقالة رئيس الجمهورية لاغية. وأجريت انتخابات النيابية وفاز برئاسة الدولة، ولم يطل الوقت على الانقلاب الثالث 1950 فقدم استقالته ولم يعدل عنها. وبعد سقوط الانقلاب الثالث 1954 عاد لقيادة البلاد. كانت حياة حافلة.
لم يكن التاريخ الذي عاشه الأتاسي مفروشاً بالورود، كثيراً ما اصطدم مع الانتداب الفرنسي، وفي مرحلة الاستقلال كان صراعه مع العسكر يفوق صراعه مع الفرنسيين. ولم يعدم الكثير من الانتقادات، فقد اتهم بمسايرة عهد الانتداب، مع أنه مشى على الجمر، لينتزع منه حقوقاً لسورية يصعب انتزاعها في زمن كانت فيه فرنسا متمسكة بمناطق نفوذها عبر البحار. واتهم بممالأة العسكر فترة ما بعد الاستقلال، مع أنه مشى معهم فوق حقل من الألغام حفاظاً على الدولة، صحيح أنه لم يصطدم معهم، لكنه وقف في وجههم، ولا ينبغي التهوين من جهوده في إحلال قدر كبير من العقلانية في السياسات السورية خلال مقارعته للانتداب، وتصديه لمستثمري السياسة وللضباط محترفي الانقلابات.
تميز الأتاسي بأنه كان رجلا دمث الخلق عفيفاً ومتسامحاً، ذو سلوك يتميز بالهدوء والرقة، بعيداً عن التهور، مستقلاً لم ينضم إلى حزب، ولم يجمع من حوله الأعوان والمريدين. كان رجل عقل وعلم وعمل يشار إليه على الدوام بالشيخ الجليل والوقور. كل هذه الصفات وأكثر يضاف إليها التواضع مع استقامة لا يشوبها شائبة. كان الوحيد في العالم العربي الذي استقال من رئاسة الجمهورية ثلاث مرات دون أن يكون مرغماً على ذلك، وهو الوحيد الذي رفض العودة إلى رئاسة الجمهورية مرتين.
ومن الطرائف أنهم لم يجدوا ما يتهمونه به سوى البخل والتقتير، ولم يكونا إلا من فرط حرصه على مال الشعب، فلم يوزع المال ليكسب الأعوان والأصحاب ولا على العسكر ليضمن ولاءهم. بل وصل به الحرص حد أنه ضمَّن فواكه حديقة القصر الجمهوري وأدخل محصول الضمان إلى الخزينة كإيراد للدولة.
ليست الإشارة إلى خصال الأتاسي الشخصية، إلا لأنها تخلو من الصفات التي يتحلى بها رجال الحكم في أيامنا، لو وصفوا بها لدلت على الضعف لا على الأخلاق. ماذا يعني أن يكون عفيفاً ومتسامحاً، بينما الشائع أن يكون قوياً وقاسياً، يضع خصومه في السجن ولا يخرجهم منه إلا إلى القبر. ولن يكون جباراً إن لم يحف به بطانة من الأقرباء الزعران والميليشيات المستوردة والشبيحة والعملاء. وماذا يعني أنه كان نظيف الكف؟ بينما الرئيس الخالد وابنه تصرفا ليس بالقصر الجمهوري، بل بسورية قاطبة على أنها من أملاك العائلة.
لذلك يبدو الأتاسي رجل دولة في زمن ذهبي غابر، لا لأمجاد صنعت، وإنما لأن ما أعقبه كان زمان خراب سورية. هذه المقارنة ليس للتأسف ولا للحنين، وإنما لنتذكر أن سوريا كانت تستحق الأفضل، صحيح أننا في زمن يمتلكه الأوغاد، لكنها لا تخلو من رجال ونساء، لديهم القدرة على استعادة سوريا ووضعها على طريق الحرية والحضارة.
-
المصدر :
- الناس نيوز