يعاني الروائي أحياناً من الافتقار إلى قصص مُلهمة، تثير قريحته، فينشد شيئاً ما لا على التعيين، يحرّضه على الكتابة، على أن يتدبّر أمره معه بإضفاء الخيال عليه، ما يجعله دافعاً للكتابة، ومثيراً للقراءة، لا يطلب من الواقع سوى تزويده بالمادّة الخام، قد لا تكون تحت الطلب، أو غير متوافرة، عدا عن أنّ هناك شروطاً تختلف من كاتبٍ لآخر، وهي ذريعةٌ صالحة لعدم الكتابة، مع أنّ الواقع رهن إشارته يطالعه على مدار الساعة، إن لم نقل على مدار الدقيقة والثانية، ثم إنّه داخله ولو ادّعى أنّه خارجه.
وسببٌ آخر، يحلو لبعض الكتّاب التذرّع به؛ أنّ الواقع فقيرٌ، لا يسترعي النظر ولا الاهتمام، يتكرّر كلَّ طالع شمس، فيبدو جامداً لا يتحرّك، من فرط ما اعتاد عليه، يدعو إلى الملل، ثمَّ ما الجديد ما دام أنَّ الجميع يرونه؟ فينشد الخيال كواقع موازٍ شديد الغنى بتهويماته.
بينما يجد آخرون الواقع أغرب من الخيال، بل ويفوقه، زعمٌ من فرط ما هو شائع، أصبح بمثابة الحقيقة الراسخة، يهَبُ الكاتب موضوعات لقصّص لا يستطيع العقل تصوّرها، الخيال منها وفيها، مُكتملة العناصر من شخصيّات وغيرها، مع كمّية وافرة من الغرابة. وقد تقتصر مهمّة الكاتب على عملية النقل إلى الورق. هل هذا صحيح؟ مع هذا تبدو من أكثر الشائعات تردّداً في الصحافة والأدب، ومن شدّة المبالغة فيها اندرجت في سلك الحقائق، ما دام أنّ الوقائع تُفاجئنا بما لا نتوقعه.
لا يكون الخيال فعّالاً إلّا إذا اخترق الواقع وغاص فيه
يُعزى السبب الحقيقي إلى تغيّبنا عن الواقع، أو إغفاله، فهو لا يحضر، ولا نأخذه بالحسبان، وكأنّنا نتعامى عنه، مع أنَّ هناك ما يتراكم في داخله إلى حدِّ الاحتقان، إذا به ينفجر. فجريمةُ رجُلٍ قتلَ زوجته وأولاده وانتحر مؤخّراً واقعةٌ مخيفة يعسر حدوثها إلّا إذا كان المجرم عصابياً ومهوّوساً، لكنّه شخصٌ عاديٌّ ضاقت به الحياة، بينما الحادثة كأنّها في دائرة الخيال، لكنّها حدثت فعلاً، لا تمتُّ للخيال، بل لواقع مأساويٍّ، لا يُخفي الفقر والجوع والحصر النفسي إلى حدّ الجنون. إنّه حصيلة عالم مُتخم بتراكمات الإجحاف والقهر. هذا واقعٌ، ليس فيه ذرّة من خيال، ولا تقتصر واقعيّته على جثث عائلة بكاملها، بل على المجتمع، ليس كما يبدو، بل إلى مجتمع هناك من يسعى إلى إخفائه، بحيث تبدو حادثة القتل والانتحار كأنّها حماقة رجل غائب عن الوعي، أو زلّة عابرة تُحيلنا إلى الشذوذ النفسي أو عاملاً خلقياً هجيناً لا تبرير له.
وإذا انتقلنا إلى دائرة أوسع، فالربيع العربي أقرب وأوضح مثال، من كان يتوقّع هذا التداعي المُتسارع من بلدٍ لآخر، وكأنّه ضربٌ من خيال! تخشى أنظمة الطغيان من الخيال، لأنّه يحرّر الناس منها، ولن تقصّر الأنظمة المستهدفة به عن إحالة أسبابه إلى المؤامرة الكونية، مُتجاهلة دكتاتوريات القمع والسجون والنهب والجوع والفقر، فقد كانت في كمون واحتقان، ما أدّى إلى ما ليس متوقَّعاً، فبدا وكأنَّ الخيال فاق الواقع، أو أنّه هزمه، ما منحَ الثورة تصوّراً عن نهاية الدكتاتوريات في المنطقة، ولم يكن مُستغرباً. ألم تسقط من قبلُ النازية والفاشية، وقبل عقود سقطت الشيوعية الستالينية بعد سبعين عاماً من قيامها، وتساقطت دول تحالف الاشتراكيات الأوروبية؟
كانت أنظمة المنطقة على نمطها، وإن على شاكلة أكثر رداءة. ما منح الاعتقاد أنَّ الثورة التي تسعى على الأرض، تكفل قوّة اندفاعتها تحوّلها إلى واقع. أخطأوا، كان على الثورة ألّا تتخلّى عن الخيال، إنّه ينظر إلى أبعد.
إذا أردنا تفسير هزيمة الربيع من هذا الجانب، فقد كان أحد أسبابه الرئيسية المثقفّون الذين خذلوه ووقفوا ضدّه، بينما استطاع العسكر القضاء على الثورة، واقع الدبابات انتصر. تسعى الدكتاتوريات إلى وضع ستار حديدي ليس مع الخارج، بقدر ما هو في الداخل، بين الناس والواقع.
لن يكون الخيال فعّالاً إلّا في اختراقه الواقع والغوص عميقاً في داخله، والكشف عمّا هو مغاير للظاهر. لا يقتصر استعمال الخيال على الأدب، إنّه روح العلم، وهو من دونه أعمى، ولا يصبح واقعاً إلّا به. لو أنّ العلم اكتفى بما يقع عليه البصر، لبقي حتّى الآن يعدُّ النجوم في السماء.
الكتابة مثل العلم اختراقٌ للواقع، تلك مغامرة الخيال الكبرى.
-
المصدر :
- العربي الجديد