نزع الاتفاق النووي فتيل التوتر في الشرق الأوسط، وتنفس العالم الصعداء بمجرد التوقيع عليه. هذا من مبالغات الصحافة، وإذا كان صحيحاً، فالمقصود هو إسرائيل في الواقع لا العرب، الحرب التي يهدد بها ناتنياهو أصبحت مؤجلة، فهو لا يستطيع شنها من دون الأمريكان ولو هدد بها، اليوم بات بوسعه الاطمئنان إلى انتزاع انياب إيران النووية، لكن لا بد من افتعال بعض الضجيج والتهويل بالتضامن مع الكونغرس، تحت عنوان: إسرائيل لا تقبل بتهديد آجل، ولو كان بعد عشر سنوات.

أما التوتر الاقليمي الذي امتد ما يزيد على أربع سنوات، فما زال على حاله مستمراً، وأصبح قابلاً للتزايد، فإيران كانت الخصم الأكثر فعالية في وأد الربيع العربي تحت حجة القضاء على المؤامرة الأمريكية، وتحرير القدس التي أصبح طريقها يمر عبر البلدات السورية التي تُقصف بالبراميل المتفجرة.

هللت إيران للاتفاق على أنه نصر مؤزر بعد مفاوضات واجتماعات وتنازلات للشيطان الأكبر الذي لم يغيّر لبوسه ولا سحنته ولا غطرسته. النصر الفعال الذي سجله الاتفاق هو استمرار الزمن الإيراني في المنطقة، الذي بدأ وأُعلن عنه جهراً بعد الانتفاضة السورية، أعطاه الغرب الضوء الأخضر، طوال المفاوضات على الاتفاق النووي، بحيث اكتسب التدخل الإيراني شرعية واقعية، جعلت دخول قوات حزب الله إلى سورية تمر من دون تحرك دولي يمنعه أو يدينه، تدفقت بعده الميليشيات العراقية والافغانية… مع تدفق الخبراء الإيرانيين والأسلحة ولم تتوقف. بات الوجود الإيراني في العام الأخير يرقى إلى احتلال واستعمار من ناحية التحكم بمفاصل الدولة والأمن وإدارة جبهات القتال.

لم يكن الاتفاق النووي على الرغم من احتفالات النصر مرضياً لإيران، المحافظون العتاة شبهوه بتجرع السم المماثل للسم الذي تجرعه الخميني. هذه المشاعر التي طفت في إيران لا يمكن تعويضها إلا بالثبات على مواقف طواها الملف النووي، استدعيت من الماضي الثوري الذي يظهر ويختفي حسب الحاجة لتطمين المحافظين، ما جعل خامنئي يؤكد خلال خطبة عيد الفطر، أن السياسات الأميركية في الشرق الأوسط معاكسة لسياسات إيران، متعهداً بتحدّي الغطرسة الأميركية، ومواصلة دعم شعوب سوريا والعراق واليمن والبحرين وفلسطين ولبنان. ما اضطر وزير الخارجية الأمريكية إلى الرد، بأن سياسة إيران في الواقع مختلفة عما يبدو في الظاهر، أما “إذا كانت هذه هي السياسة فهذا أمر مزعج ومقلق للغاية”.

يعرف الإيرانيون أنهم لن يستطيعوا على المدى القصير تجسير الهوة بين ما يقولونه وما يفعلونه، ولا التلاؤم بسرعة مع النظام الدولي، وسوف تأخذ الاستثمارات الغربية وقتاً طويلاً لتزيل التناقضات بين أنظمة مختلفة، والأفضل أن تأخذ وقتاً أطول يساعدها على تنفيذ طموحاتها المسلحة في المنطقة. لذلك الأمل معقود على استعارة النهج الصيني الصالح للمراحل القادمة، تقدم اقتصادي مع عدم التفريط بالتوجه السياسي، ما يمكن أن يكفل مصالحها على المدى البعيد ايضاً. لذلك لا يصح على المدى القصير التنازل عن توجهات الهيمنة الاقليمية، بتصدير الاحتقانات المذهبية والطائفية. والمحافظة في الوقت نفسه على سلامة الداخل الإيراني من التشقق، ولئلا يعتقد أحد أن تغييرا حدث، وأن إيران بلا عقوبات تراجعت عن انتصاراتها التي حققتها في الظروف الأقسى. أما والمليارات سوف تنهال على إيران الموعودة بالإمبراطورية، فالأولى أن يصب بعض منها في ساحات القتال، فالنصر النهائي قاب قوسين أو أدنى، حسب خامنئي.

في ظل هذه الأوضاع تبرز سورية على أنها التحدي الأكبر، فإيران لم توفر دعماً للنظام، والعائدية ليست اقتصادية، فسورية بالنسبة إليها بحكم موقعها الاستراتيجي تحقق التوازن في المنطقة أو تنشر الفوضى. ما يحقق لإيران الابتزاز والتهديد بالفتن. وكانت مسارعتها إلى ارسال جنودها بالآلاف إلى الساحل منعاً لسقوطه يعني أنها ستحارب حتى النهاية، حسب خامنئي أيضاً، وبروز التقسيم كأحد البنود المقترحة لحل الأزمة السورية.

مازالت إيران تضع الحل العسكري على رأس خياراتها، بينما يحاول العرب والغرب استجرار الأزمة السورية إلى الحل السياسي، الذي بات في الواقع شديد التعقيد، خاصة مع انزياح الغرب وميلانه إلى توكيل شؤون المنطقة لإيران تحت عنوان تمدد “داعش”. إن اخفاق العرب ووضعهم أمام الأمر الواقع، سيذهب بالمنطقة إلى حقبة إيرانية تمتد سنوات من النزاع، واستنزاف موارد البلاد على حرب في النهاية خسارة لجميع الأطراف.

تعتقد إيران أن تحقيق طموحاتها على المدى القصير، لن يقف عقبة في وجه طموحاتها على المدى المتوسط والبعيد. بينما الأجدى لها النظر إلى سورية ليس في حساب أرباح المدى القصير، وإنما في حساب أمن المنطقة وتعايشها بسلام. وإذا كانت خسارتها محققة فلأنها تقاتل شعوباً لا أنظمة.