في بداية القرن الحالي، كان من المتوقّع أن تكون العقود الأُولى فترة ذهبية لتصفية بقايا التراث الاستعماري في العالَم، بعد اختفاء تناحُر القطبين. لم يعُد هذا العار يتلاءم مع عصر يتقدّم نحو مستقبل نظيف من الجشع والطموحات غير الإنسانية، والسعي إلى التغلّب على الحروب بالمفاوضات. كان القرن مُبشِّراً، لكنها كانت مجرّد أفكار تدور في أذهان الحالمين من المفكّرين، لم يعدم السياسيّون دوراً فيها، فالسياسة لا تغيب عن اقتناص الفرص، وتُوحي أنّ لها نصيباً في كلّ تقدّم أو تراجع. غير أنّ نصيبها لم يكُن كبيراً فقط، بل كان في تضخّم، تبدّى في الحنين إلى الماضي القريب، بإحياء الأفكار العُنصرية، فهي تتوارى ولا تموت، والاستفادة منها تحت تأثير تحذير يضج بالتحريض، إن هوية وثقافة وطرائق العيش الأوروبية في خطر. أمّا ما الخطر؟ كان في تسلُّل اللاجئين إلى “القارّة السعيدة”.
هذا التحذير كان بتآزُر بين اليمين واليسار، وكأنما في تنافس، فالهدف هو “الآخَر” المُطارَد من سلطات دول صنعها الغرب، ما منح الفرصة لليمين المتطرّف للتعبير عن الوعي المستتر المُظلم لأوروبا التي لا نعرفها، مجرّد أنها تسترشد بالماضي النّازي، فالمظاهر معبّرة عن نفسها، طالما لا تني تنتشر في مناسبات رياضية بهتافات تحمل شعارات سياسية شعبوية، كذلك مُلصقات استفزازية على الجُدران، وتصريحات ذات نزعة عنصرية تعمل على الانتصار لعِرق دون آخر، مع تنامي نزعات قومية مُتشدّدة تكشف عن استبداد غير مُتحضِّر، وتصديرها على أنها تمثّل وطناً متوحّداً خليطاً من اليمين واليسار.
تلقّفت هذه المخاوف والتطلّعات جماعات أقصى اليمين، وتجرّأت على ترديد ما كان شائعاً في عهود الدكتاتوريات الفاشيّة وأشباهها، ولم يتورّع ساستُهم عن استخدام اللغة وأساليب التعبير المُتطرِّفة، يتعمّدون فيها استعادة شعاراتها بحيث لا يمكن التمييز بينها، تتوضح كمثال في ملصق صورة طفل بريء في عمر الثامنة، شعرُه أشقر وعيناه زرقاوان، يمتدّ وراءه مشهد حافل بطبيعة خضراء بريئة وعصافير تزقزق ببراءة. يحمل الملصق شعاراً كُتب بالفرنسية يقول “فلنمنح الأطفال البيض مستقبلاً”. هذا للإيحاء بأن مستقبلاً أسود بانتظاره، كلّ تلك البراءة التي يمثّلها الصبي والطبيعة والعصافير… يهدّدها القادمون من القارّة السوداء، ألا يجب مَنْحُ الصبيّ الأبيض فُرصة لمستقبل غير مُختطف؟
تمدّدت العنصرية خارج أوروبا وباتت عاراً مُستفحلاً يطبع العصر
ولا يقلّ عنه مُلصق حزب الشعب السويسري، حيث نرى علم سويسرا وقد غطّته المآذن وسيّدة ترتدي البُرقع، مرفق بعبارات تدعو لمنع المآذن، وخلفية تستعير ألوانها من ألوان علم الصليب النازي المعقوف؛ الأحمر والأبيض والأسود. تظهر من خلاله صورة امرأة مسلمة جرت شيطنتها عن تعمُّد، وكأنها من ملصقات الدعاية النازية. ما يقوله الملصق السويسري بكل وضوح، عدا ما يدعو اليه من منع المآذن؛ هؤلاء الناس لا ينتمون إلينا، إنهم “الآخرون”، إنهم ليسوا بشراً.
تعمل “إسرائيل” على ترويج هذا المناخ، مُتذرِّعة بمفاهيم الدول الفاشية نفسها، يُساعدها غرب لطالما طمح إلى اقتحام بلاد هي بلاد الآخرين. أضافوا إليها، حسب أستاذ العلوم السياسية والباحث الفرنسي فرانسوا بورغا، مفاهيم اليمين المتطرّف وقطاعات من اليسار، لا تدعم “إسرائيل” كدولة يهودية، بل كدولة “معادية للمسلمين”. ولا كدولة تنحو إلى الإبادة في غزّة فقط، بل تتجاوزها إلى العرب والمسلمين في المنطقة أيضاً، وإذا كان هناك ما يندمون عليه، فهو عدم قيامهم به بشكل أكثر عنفاً في سياق حروب إعادة الاستعمار، تتجدّد في المواجهة العدائية للظهور المتزايد للمسلمين في أوروبا. ومنذ تأكدّ وصول المستوطنين المتطرّفين إلى الحُكم في “إسرائيل”، تحطّم الادّعاء بالعلمانية، وأصبحت المرجعيات الإسرائيلية دينية وعنصرية بجلاء، وإذا جرى الحديث عن مكانة “إسرائيل” في العالَم، فباعتبارها “شعب النُّور” الذي يحارب الفلسطينيين “شعب الظلام”.
هذه المزاعم رغم أنها غريبة في هذا الزمان، بدأت تأخذ منحى واقعياً صرفاً يطبع عصرنا بهذا العار المُستفحل، بتمدُّدها حتى إلى شعوب بلدان مطرودة من “النعيم” الأوروبي، فأتراك ومثلهم لبنانيون كلاهما يعتبران من الأجانب في أوروبا، فالأتراك مشبوهون بالإسلام، واللبنانيون مشبوهون بالعروبة، مع أنّ كليهما قد يتبرآن من الإسلام والعروبة، ما دام هناك أتراك ينكرون أنهم مسلمون، ولبنانيون ينكرون أنهم عرب، يُمارسون عنصريّتهم البغيضة على أشقّائهم وجيرانهم من السوريّين الذي اضطرّوا لأن يكونوا لاجئين تحت تأثيرهم أو بسببهم.
-
المصدر :
- العربي الجديد