بعد محاولات تغييبها طوال ما يزيد على نصف قرن في ظلام الديكتاتورية، آن الأوان لتستعيد الثقافة السورية دورها، تكاد أن تبدأ من الصفر، لولا كوكبة من المثقّفين والأدباء السوريّين، استطاعت أن تمنح الثقافة مكانة رفيعة، وأثبتت حضوراً متميّزاً، فالظلام لم يكن شاملاً. كانت هناك شعلة لم تنطفئ طوال هذا الزمن.

تستدعي الواقعية النظر إلى الماضي الأسود، فالتركة ثقيلة، والأمراض مستفحلة، خاصّةً في ما أصاب الثقافة من تشويه مع مرور الزمن، تحت تأثير ثقل نظام بوليسي، تَسلَّط على جميع مناحي الحياة، ولم يستثن كلّ ما له علاقة بالإعلام والصحافة، والثقافة، والأدب، والفنون. وكانت للمخابرات اليد الطولى في ترسيخ رقابة انعكست على أداء المثقّفين الذين لم يعدموا الوسائل للمجابهة، كما للتحايل عليها.

طاولت الرقابة أجيالاً من الكتّاب في العمق، إلى حدّ أنّه بات هناك رقيب زُرع في داخل كلٍّ منّا، ما يوجب التخلّص منه، ولو أنّه التصق بنا، واعتدنا وجوده حتى أصبح جزءاً منّا، نلاحظه حتى عند الذين خرجوا من سورية، ولم يتخلّص بعضهم منه بعد. بالتالي لا يمكن لوم الأدباء الذين بقوا في الداخل على عدم قيامهم بمعارضة فعّالة يمكن أن تُشكّل تحدّياً للنظام، على الرغم من خراب البلد والبؤس الشديد وانكشاف الآلة الرهيبة للقتل والنهب، لم تنعكس في كتاباتهم، كانت فوق طاقة أُدباء عُزّل، سلاحهم القلم والكلمة، أُدباء عزّل من دون أيّ حماية، مواجهة نظام قاتل جبّار، مع هذا دفع المثقّفون حصّتهم من الضحايا لدى الاحتجاج أو المبادرة بفعل إغاثي. ما وقع على أدباء وصحافيّين ومسرحيّين لم يكن أقلّ من الموت، كاعتقال الممثّل زكي كورديللو مع ابنه مهيار، الطالب في “المعهد العالي للفنون المسرحية” بدمشق، واللذين لم يظهر لهما أثر حتى الآن، والإعدام الميداني للروائي إبراهيم خريط مع ولديه، واختطاف الروائي محمد رشيد الرويلي وقتله، ووفاة فنّان الكاريكاتير أكرم رسلان تحت التعذيب، واستشهاد السينمائي باسل شحادة، وغيرهم كثُر نالت الاعتقالات في السجون سنين طويلة من حياتهم.

لن تشقّ طريقها نحو المستقبل إن لم تستعد سلاحها: العقلانية

وقع الأدب في أسر نظام المخابرات طوال فترة الأسدَين، وبلغ الذروة خلال فترة الثورة والحرب، ونجا منه الذين غادروا، لكنّ الذين في الداخل كان الأذى عليهم مضاعفاً، ولا من جدوى لتضحيات مجّانية، في زمن القتل المجاني. كانت المقاومة في عدم الانجرار وراء دعاياته وادّعاءاته.

في هذا المجال، نحن بغنىً عن التعرّض لصنف من المثقّفين الرماديين الذين زعموا أنّهم المعارضة الوطنية الواعية، وكانوا ضدّ الثورة تحت ذريعة أنّهم ضدّ الإرهاب، ومتوافقين مع النظام بدعوى علمانيته، وكان دفاعهم عمّا أطلقوا عليه أخطاء النظام وجرائمه ووحشية الشبّيحة، حوادث جانبية يُمليها القضاء على العصابات المُسلّحة، وكانت لهم علاقات طيّبة مع المخابرات لن نحاول تفسيرها، ما سمح لهم بحرّية الحركة في الداخل والخارج، واتّهام أدباء الخارج بالطائفية والإسلام السياسي والإرهاب، والإسهام بسفك الدّم السوري، ولم يتورّعوا عن تخوين المعارضين، وكانت انتقاداتهم لا تقلّ عن إخباريات كيدية لأجهزة الأمن، مع أنّهم لم يكونوا مُضطرّين لإبداء الولاء. لن نُراهن عليهم ولا على ضمائرهم. كانت إساءتهم للثقافة بالذات، فغدت ذات سمعة سيّئة، باتخاذهم مواقف مرائية إلى جانب الطغيان وتسويغه، والتظاهر في الوقت نفسه بانتقاده، والذرائع متوافرة في الحالين، فثقافة الرياء تستطيع أن تكون بوجهين.

يمتلك المثقّفون اليوم في سورية حرّياتهم، طالما لديهم أقلامهم وضمائرهم. إنّ الحاجة ماسّة إلى استعادة الجدل الديمقراطي والعلماني والديني على الأرض، وليس من بُعد، من خلال الواقع لا التنظير المجرّد، والأفكار المسبقة، والأيديولوجيات الجاهزة. وعلى سبيل المثال، إدراك أنّ السوريّين شعب متديّن بمختلف طوائفه، ما لا يتعارض مع علمانية منفتحة، كما في التصدّي لإشكالية الأكثرية والأقلّيات. إنّ وضعها في نصابها الحقيقي امتحان للثقافة في توجّهاتها، نحو وحدة البلد، لا تكريس الحالة الطائفية. نحن السوريّين، إذا أردنا سورية موحّدة، فلا أكثرية ولا أقلّيات، لا تقسيم ولا امتيازات، انتماؤنا إلى سورية فقط، حماية للجميع.

بالنسبة إلى الداخل السوري، بداية يجب العمل على فصل اتحاد الكتّاب عن الدولة. إن استقلالية المثقّف أولوية، وألّا يكون تابعاً لأيّ سلطة سياسية، وليس طوع أمر الدولة ولا عدوّاً لها.

إنّ فصل الأدب عن الأنظمة والتحرُّر منها، وإدراك أنّ الحرية لا مساومة عليها ولا تنازل عنها، كانت مكافأة الثورة للسوريّين على ما أصابهم طوال عقود، فلا تبديد لها، ولا انصياع إلّا للضمير، وما نعتقد أنّه حقيقة، لن نرسم طريقاً، أو خريطة طريق، ولن ننصح بوسائل وأساليب… على المثقّفين اكتشاف حرّيّاتهم، وكلّما كانت مسؤولة، كانت أكثر حرّية.

إنّ في بثّ الروح في الثقافة ما يعود بنا إلى أنّها مادّة للصراع والحوار والجدل، لن تشقّ طريقها نحو المستقبل، إن لم تستعِد سلاحها؛ العقلانية. إنّ العمل على تفعيلها في ظروف دقيقة فرصة سانحة لإجراء متغيّرات ضرورية، ربما كانت جذرية.

ما تركه نظام الأسد من مخلّفات لا يستهان بها، الكذب والتزييف والرضوخ والنفاق والرياء وإخفاء الحقائق، الولاء، وقمع حرّية التعبير وقانون الصمت… هذا ما يجب التخلُّص منه، والتعاطي مع قضايا جدّية ومصيرية ترسم مستقبل الثقافة في سوريّة جديدة، تولد من جديد، المثقّفون على موعد معها.

نحن على عتبة الخروج من العتمة إلى النور، وليست مجرّد خطوة. إنها انتقال من عصر إلى عصر.