ما هي أولويات عالمنا، إسقاط الدكتاتوريات، أم شعوب مستعبدة غير حرة؟ هذا السؤال يجب توجيهه للديمقراطيات وهو ليس توريطًا لها بمصائر الشعوب، وإنما في الكف عن الوقوف موقف المتفرج، وإطلاق التصريحات وإصدار البيانات عن الانتفاضات الشعبية، وإذا أرادت التدخل، أن تحسن التورط في تغيير أنظمة الدول، بما يؤهلها لتكون جزءًا من النظام العالمي.

ليس هناك حرب داخلية، أو انتفاضة، أو ثورة أو ما يشبه الثورة، إلا وتدخلت الدول الديمقراطية في مجرياتها، بالدبلوماسية والسلاح والمخابرات والمساعدات الإغاثية، هذا التدخل مفروغ منه، لكن ما يجب التساؤل عنه إلى جانب من؟ فهي لا تعدم التواصل مع الأطراف كلها، ودائما لا تأخذ موقفاً نهائياً، وتتردد بين موقفين، ليس بين الخير والشر، أو الحق والباطل، وإنما أين تكمن مصالحها، وهو ما يدعى في سياساتهم ببعد النظر، وهي نوع من البراجماتية يتسم باللأخلاقية.

الهدف المعلن، كما يعبر عنه الأميركان بقوة على ألسنة رؤسائها: نحن لا نرسل جيوشنا إلى بلد إلا حيث ينبغي أن يكون لنا هدف أوسع بكثير من الهيمنة أو مصالحنا الاقتصادية، ألا وهو نشر الديمقراطية في المنطقة.

لماذا لا تنتشر الديمقراطية في العالم العربي الخاضع لأنظمة متخلفة؟

في حال كان المقصود هو منطقتنا العربية، فهي أحد المناطق التي يزعم أنها المستعصية على الديمقراطية، ما يبرر التدخل فيها معبّراً عنه بالتساؤل التالي: ألا ينبغي على الشرق الأوسط الذهاب في الاتجاه نفسه الذي تسير إليه دول العالم، خاصة أن الانتخابات الحرة انتشرت في مختلف بلدان مناطق آسيا وأميركا اللاتينية، بل وفي أفريقيا بعد سقوط الاتحاد السوفييتي؟ ألم تكتسح الديمقراطية بثوراتها الملونة، بلدان أوروبا الوسطى والشرقية التي كانت خاضعة لنظام الحزب الواحد؟ لماذا لا تنتشر إذن في العالم العربي الخاضع لأنظمة متخلفة؟

التطلع إلى الديمقراطية ليس بالحدث الجديد ولا المبتكر، تطلعت إليه شعوب المنطقة، ولا مبرر لاستثنائها من الحراك الديمقراطي، تطلعت إليه في زمن مبكر بعدما حازت شعوبها على الاستقلال، لولا أنها وقعت في فخ الصراع بين الرأسمالية والشيوعية.

في عام 2011 تجسد الطلب عليها في بلدان الربيع العربي، لم تندلع المظاهرات تحت تأثير دول الديمقراطيات ولا بمؤامرات إمبريالية، وإنما لأن الديمقراطية حاجة بشرية، وثمة مناخ ديمقراطي ينتشر في العالم، لذلك كانت “مزحة” عندما لم يجد رئيس الولايات المتحدة بدل الإعلان عن تدخل الدولة الأعظم راعية الديمقراطية في العالم سوى الطلب من النظام السوري تغيير سلوكه، أي أن يغير الدكتاتور أسلوب الحكم من دكتاتوري إلى ديمقراطي، وعلى هذا المنوال أو ما يشبهه تتالت تصريحات السياسيين الغربيين.

هل هناك دكتاتور ديمقراطي؟ إذا كان فالرئيس السوري رد عليه باستعمال السلاح الكيماوي للقضاء على شعبه الذي طالب بالديمقراطية نفسها التي ينادي بها الغرب، وتحبذها شعوب العالم كلها. وكان ضحايا الكيماوي الأطفال والنساء، التفسير الملموس لتغيير الدكتاتور السوري لسلوكه.

أما الزعيم الأميركي الذي امتلك هذه الطاقة من المزاح مع إكسائها بالجد والمثابرة، فهو باراك أوباما، لكنها لم تكن مزحة بل مهزلة. إذ بلغت به المخاتلة أنه أعطى الإيرانيين ضمانة بإعفائهم من المساءلة الدولية عن دخول ميليشياتهم إلى سوريا لإنقاذ النظام، ولم يكن إلا بقتل السوريين. لا معنى آخر لتعهده لهم غير هذا، من أجل إنجاز الاتفاق النووي، من أجل أن يحسب لمرحلته الرئاسية.

بينما كان لمناصرة الشعب السوري أن يحسب لعهده إنجازاً سياسياً وأخلاقياً، بالإسهام في إسقاط نظام دكتاتوري مجرم وبغيض، لكن أوباما وقع اتفاقاً مع الروس بانتزاع المخزون الكيماوي، والذي ثبت أن النظام لم يسلمه كله، وتابع باطمئنان قتل شعبه بالكيماوي، وأضاف إليه البراميل المتفجرة..

كان اعتقاد السوريين بعد ضربة الكيماوي وإدانة النظام، أن الأميركان سيعاقبونه، ما يشكل نهاية سعيدة لمحنتهم الدموية، ويصبح بالإمكان توقع تغيير ملموس، فالجهاديون لم يكونوا قد سيطروا على كثير من المناطق وتمددوا على الأرض، ولم يستفحل تطرف الجماعات الإرهابية.

إذا لم تدافع السياسة عن العدالة والحرية، فعن ماذا تدافع؟ أو لماذا كانت السياسة أصلاً؟

إن الزعم أن السياسة لا علاقة لها بالأخلاق، تنصل مما تفرضه الإنسانية، فالسياسة على صلة قوية بها، ولا تستقيم من دونها، من دون إغفال المصالح، لكنها تعلو عليها، فالمصالح إنسانية بالدرجة الأولى. إذا لم تدافع السياسة عن العدالة والحرية، فعن ماذا تدافع؟ أو لماذا كانت السياسة أصلاً؟ ليست السياسة هي القوة والهمجية والجشع والقتل بأسلحة متطورة، السياسة هي من أجل إحقاق الحق بأساليب عقلانية تعتمد التفاوض لا فوهات المدافع.

ليس هناك أسهل من تدمير البلدان، حدث هذا في العراق وأفغانستان وسوريا، بينما إعادة ترميم الدول وإجراء إصلاحات جذرية، هو الطريق إلى تحررها. بيد أن الدول المأمول منها المساعدة أو حتى الوقوف موقف الحكم العادل، هي الأكثر لا مبالاة به وتنصلا منه، ولا يعتبر من القضايا الأساسية في أجنداتها، لا تنشد سوى التنافس على مقدرات العالم، ما يؤدى إلى حروب اقتصادية وخلق مناطق توتر.

وإذا كان هناك ما يقال، فهو إن الديمقراطيات بحاجة إلى إعادة نظر في الديمقراطية نفسها، والعمل على إصلاحها من الداخل، ما ينعكس على الخارج بوضع سياسات تدخل إنسانية لا يحق لها التراجع ولا التنازل عنها، مثلما لا يجوز اللغو بها علناً، والتنصل منها سراً، إلا إذا كانت الديمقراطيات لا تستمر إلا بخراب العالم.