هل هناك روايات رديئة؟ طبعاً، مثل ما هناك روايات جيّدة. ولا صعوبة في تمييز هذه عن تلك. فالرداءة لا تُخفي نفسها، وإذا كسبت قرّاءً، فهذا من حُسن حظّها؛ هؤلاء لا تعجبهم الروايات الجيّدة، يجدونها صعبة ومعقّدة. فالرداءة لا تعدم زبائنَ لها، وإلّا توقّف كُتّابها عن الكتابة، ودور النشر عن إصدارها.
إذاً هناك روايات رديئة، وقد تكون من الروايات الأكثر انتشاراً، وهي لا تعنينا، ولو كانت قصّة نجاح، تستعين بالترويج الذكي، والتسويق الأكثر ذكاء. ويمكن القول إنّ الرواية هنا ليست الكتاب نفسه، بل كيفية وضع هذه الرواية بشكل لطيف، لا يخلو من ضجيج، على قائمة الأكثر مبيعاً، وقد تكسب جائزةً أو أكثر وتُعقد الندوات حولها، ويتوفّر ما يُقال عنها، لا عجب، حتّى الهراء يظفر بالمديح، ودائماً لدى بعض النقّاد مزاعمهم الجاهزة. وفي هذا المضمار يصحّ القول: ما دام الكُتّاب ليسوا روائيين، فالنقّاد ليسوا نقّاداً.
يظهر الإشكال مع الروايات المتعثّرة، وهذه لا تسْهل معرفتها، مع أنها لا تستميل ذائقة القارئ، فيعتقد أنه السبب بالتقصير في فهمها، ولا يجرؤ على إعلان رأيه، لأن الكاتب معروف، شهرته تثبت جودة كتاباته. أمّا الطرافة، في حال امتدحها، فهو أنه تورّط وقرأها، ولا يريد الاعتقاد أنه أضاع وقته على رواية لم ترق له.
ربما لا مفرّ من دليلٍ لقراءة الروايات المتعثرة، لئلّا يضطرّ القارئ إلى قضاء ساعات تلْو ساعات يبحث عن شيءٍ ما ضائعٍ في داخلها من دون العثور عليه، إذا لم يجد ما يهمّه فيها، فهي ليست له، قد تعجب غيره. أو يبحث عن شيء تصوّره، إن لم يجده في الخمسين صفحة الأولى، فلن يجده بعد مائتي صفحة، لا سيّما إذا كانت الرواية مملّة، فلن تكون متابعة القراءة أكثر من عملية تعذيب.
وقد يكون العمل مشوَّشاً، يقارب الكاتبُ موضوعَه بنوع من الفوضى. لماذا؟ لأنه لم يستوعب ما يريد التعبير عنه، وإذا كان ذهنه مشوّشاً، فالكتابة ستكون هيستريا. أو أن الرواية بطيئة، بحيث يستعرض الروائي قدراته اللغوية، فينسى المكان والزمان ويفقد شخصية أو شخصيتين، بينما يبرم في البلاغة، على الرغم من جمالها؛ المعمار الروائي لا تبنيه اللغة وحدها.
كذلك، يجب ألّا يخدع القارئَ المنطقُ الذي يتكلّم به الأشخاص، وكأنهم في جدل محكم، فالبشر ليسوا في محاضرة، ولا يتشاطرون في إبداء الحجج والأسباب؛ إنها حجج الكاتب وأسبابه، بينما في الرواية يتبادلون الحديث بتلقائية وعفوية، تبعاً للموقف، ومن هذه العادية نستشفّ أعقد الأفكار وأبلغها.
أمّا أكثر الذرائع التي باتت الأكثر ترداداً، فهي أن الكاتب ــ حسب قوله ــ يريد استفزازك، ويدفعك إلى الشعور بالقلق، أو يقلب ما في ذهنك ويحوّل اتجاهه، أو يبلبل أفكارك… وربما هو يثير غضبك، ويدفعك إلى إشعال ثورة قبل أن تنتهي من القراءة، أو يحرّضك على القيام بمظاهرة في منتصف الليل. كلّ هذا وأمثاله لا يفلح، عندما يقصد ذلك، فالوسيلة رواية جيدة، تتسلّل إلى عقلك وتحرّك مشاعرك، ما يجعلك تدرك الخطأ الذي نعيش فيه. عندئذٍ ستشعر بالقلق وتغضب، وقد تعيد النظر في الكثير من الأمور.
أخيراً، وليس آخراً، لا يجب إغفال هؤلاء الذين وجدوا في روايات أميركا اللاتينية منبعاً ثرّاً للإدهاش، فوجب عليهم إثارة دهشتنا وإعجابنا، ما أرهق رواياتهم بالطرائف والأعاجيب في التخييل، بينما الواقع يعجّ بغرائب تفضح الخلل في حياتنا، وبجرائم مرتكَبة في حقّ الإنسان، سواء العربي أو غيره؛ إنها عن البشر، فلا نستعيض عنهم بتهويمات مستدعاة من روايات عن معاناة الآخرين، لكن ماذا عن معاناتنا؟
لا أعتقد أن هناك خلاصة، وإذا كانت، فينبغي على القارئ أن يكون صادقاً مع نفسه، بوسعه إدراك ما إذا كانت الرواية رديئة، فلا شيء يجبره على أن يكون قارئاً سيئاً.
هذا المقال يشعرنا بأن الروائيين يريدون قارئاً جيّداً. لماذا؟ لأنهم بحاجة إليه فعلاً، فهو ما يمنح رواياتهم ما تستحقّه من الأهمية.
-
المصدر :
- العربي الجديد