كم هذه الحرية مؤلمة وثقيلة ومكلفة، دفع السوريون من جرائها مئات آلاف القتلى والجرحى وملايين المشردين. الوقوع في حبائلها، ليس مديناً لجيلنا ولا للجيل الذي قبله أو بعده، الأجيال الثلاثة التي حاول النظام تدجينها، ووقع عليها حيف كبير في تاريخ سورية الحديث، تحملته في السجون والمنافي والموت على أعواد المشانق، أسوة بشهداء 6 مايو/ أيار.

جميعنا مدينون لجيل شاب تتراوح أعماره بين السابعة عشرة والثلاثين، حسب تقدير جزافي. ولج عالم السياسة في مواكب المظاهرات والجنازات، وقاد الانتفاضة السورية، عبر بابها العريض، وتركه مفتوحاً للجميع، الرجال والنساء، حتى الأطفال الذين خرجوا في المظاهرات، استهدفوا مثل الكبار بالاعتقال والقتل.

ذاق السوريون طعم الحرية، وكانت مرة كالعلقم، لكن التوق إليها غلّاب، والتضحيات من أجلها كانت من دون حساب ولا تقنين. ثقافة الحرية صنعت تحت النار، وإذا كانت الرؤية الشاملة لدى الشبان مفتقدة، فقد عوض عنها الإخلاص لإرادة التغيير. لذلك ليس من المستغرب أن يكون التفوّق الأخلاقي والرومانسية من ملامحهم البارزة، مع أنهم واجهوا واقعاً دموياً لا يرحم. غير أن الشوق إلى الحرية، أشد جاذبية من الحرية نفسها.

” غير أن الشوق إلى الحرية، أشد جاذبية من الحرية نفسها”

على خلاف ثقافة الموت، لم يقارع الشبانُ الطغيانَ بأفعال انتحارية، بل نشدوا النصر والحياة. قرأنا كتابات بأقلام شابة من درعا وحمص وحلب ودمشق والأرياف السورية، لا تفتقر إلى الحب والأمل، مع أن الرصاص يُصلِّب القلب ولا يلينه.

كتابات لا يائسة ولا بائسة، مشفوعة بروح النكتة، ما أضفى على الدموع لمحات من المزاح والمزاجية المستظرفة في مشهديات فقيرة وبشر جائعين، طرافة متميزة حملت قدراً من الألمعية وإصابة الهدف، واللامبالاة بالموت: إذا كان لا بد من الحياة فمع الكرامة.

الفوضى، جعلت البعض يعتقد أن هذا الجيل يفتقد رؤية تخص المستقبل، فهو لا يخطو نحوه، أو يفكر فيه بقدر ما يحن إلى عالم مضى، سمع عنه ولم يعشه، باستعادته لرموز الثورة السورية ضد الفرنسيين؛ سلطان باشا الأطرش وإبراهيم هنانو وصالح العلي… وأعلام رجالات الاستقلال، هاشم الأتاسي وفارس الخوري وشكري القوتلي.

ماض كان تأكيداً على زمن عربي، كانت فيه سورية وطناً للجميع، في أكثر من عهد؛ في الحكم العثماني وتحت الانتداب الفرنسي، والاستقلال الوليد، والخمسينيات من القرن الماضي.

دولة طمح رجالاتها إلى بناء دولة ديمقراطية. أما الخط الأحمر الذي راعاه الجميع، فعدم السماح للاستعمار والطائفية والمصالح الشخصية، بافتراس الدولة الوليدة، غير أن العسكر افترسوها وسخروها لهم. وعادت دباباتهم منذ أربع سنوات إلى تمزيق البلاد، بينما أصبحت الثورة في علم الغيب.

هل انتهت الثورة؟ لا يمكن التنصل من الحرية، ولا التراجع عنها، وإن كانت تفتقر إلى الثورة. من دون الحرية لا تحرر من الاستبداد، ولا من الولاءات الطائفية الباطلة، وما أطلقته من كراهية وفساد.