منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي، كان السوريون على موعد مع سعيد عقل كل عام، يحضر غالباً من خلال فيروز. الكثيرون ترسخ الموعد في ذاكراتهم مع افتتاح “معرض دمشق الدولي” السنوي، وكان موقعه على مقربة من جسر فكتوريا والتكية السليمانية بجوار المتحف الوطني، يخترقه نهر بردى، النوافير ترشق الماء مضمخ بالألوان، صوت فيروز يسري في الليل الدمشقي، والنسيم الرقيق العليل المعطر برذاذ الماء يداعب الوجوه.. وسائليني يا شآم.

أكثر ما يجلب النظر في سعيد عقل، هو الشاعر نفسه، والتساؤل عن مدى سيطرته على شعره، هل ينقاد الشعر للشاعر، أم ينقاد الشاعر للشعر؟ تناقضات سعيد عقل أكثر من أن تحصى، فصاحب الدعوة للعامية اللبنانية والكتابة بالحرف اللاتيني، التي وصفها باللغة الحية، قطع صلته بالعربية “اللغة الميتة” كتابة ولفظاً. ضاق بالحزب القومي السوري الذي اتسع للبنان وسوريا وفلسطين والأردن، ولم يجد ملجأه إلا في لبنان الفينيقي كارهاً العرب.

” لم يكن الشاعر نفسه إزاء التاريخ، كان شعره أكبر منه”

غير أن الشاعر الذي رفض العربية والعروبة والإسلام، كتب بالعربية الفصحى بعض أجمل شعرها. كان هواه شآمياً. أحب دمشق وتبادلا الخلود، خطَّه على صفحاتها، فارتفعت بشعره إلى سماوات، قلَّ من ارتقى إليها.

لا يمكن فهم سعيد عقل على أنه جزء من تناقضاتنا، وإنما على أنه توق إلى العظمة أينما وجدها، فأخطأ وأصاب، أخطأ في تصريحاته، وأصاب في شعره، ولم يكن انحيازه إلى الأمويين، سوى انحيازه إلى المجد وولعه به. كانت الدولة الأموية التي وصلت بفتوحاتها إلى الهند، وأنشأت حضارة سامقة في دمشق، وحطت رحالها في الأندلس. وجد فيها أيقونة التاريخ الإسلامي والمجد العربي التليد، فتبدى هواه الأموي صداحاً في شعره.

العنصري اللبناني، عدو العرب… لم يكن الشاعر نفسه إزاء التاريخ، الذي من فرط ما أخلص للشعر، كان شعره أكبر منه، لم يكتبه في سهوة ولا غيبوبة، بل في صحوة وفي أقصى تجلياته، لا يخرج شعر بهذه العظمة إلا من النفس، شعر صاف نقي، يشف عن الروح، كان الأصدق.

لا نبرر للشاعر، الشعر يبرّئه. “شآمُ… لفظُ الشـآمِ اهتَـزَّ في خَلَدي كما اهتزازُ غصونِ الأرزِ في الهدُبِ”. شآم… كانت تهزّ وجدان السوريين في أرجاء سورية كلها، كان المستقبل مشرقاً وواعداً.

اليوم، ومنذ أكثر من ثلاث سنوات يسمعونها وتغرورق الدموع في عيونهم… سوريا خراب وقبور ومواكب شهداء. لو أن الذين يقصفونها بالمدافع ويدوسونها بالدبابات، يحبونها، لما أطلقوا رصاصة واحدة.